الشيب بين الطب والأدب
بمناسبة يوم المسنين العالمي تحدثنا عن كبار السن من الناحية الطبية والاجتماعية وذكرنا أن تقدم السن أو الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل الحياة التي سنها الله للبشر، وأن تقدم السن يكسب الإنسان خبرة ومعرفة وحكمة تنور الأجيال وتثري المجتمعات(1).
وسنتطرق اليوم إلى موضوع الشيب من الناحية الأدبية. فالشيب في اللغة هو بياض الشعر، أما في الخليج فالشيب هو كبر السن وهو الذي أقصده اليوم، فرجل شايب أي عجوز والجمع شيّاب أو شواب. و لا نقول للمرأة شايبة بِل عجوز ولاِ تستعمل كلمة عجوز إلا للمرأة في الخليج. أما في اللغة فالمرأة العجوز تسمى شمطاء. وقبل التحدث عن الشيب لا بد لنا أن نتطرق لما هو قبل الشيب.
الشباب:
مرحلة الشباب هي بين الثلاثين والأربعين ثم يصبح المرء كهلا حتى الستين كما يعرفها علماء اللغة(2)، ولكن الواقع أن خلايا عظام الإنسان تتوقف عن النمو وتبدأ في التراجع بعد خمسة وعشرين عاما من العمر. أي أن خلايا الجسم قد تبدأ في الشيب قبل الشعَر وهو أمر لا يدركه عامة الناس. ومنذ القدم بكى الناس على الشباب وتأسفوا على فقده. قال ابن أبي حزم وقيل الباهلي:
ولى الشباب فخل الدمعَ ينهملُ فقد الشبابِ بفقد الروح متصلُ
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها من الشباب بيومٍ واحدٍ بدلُ
وقال جرير:
ولى الشبابُ حميدة أيامه لو كان ذلك يشترى أو يرجعُ
وقال أعرابي:
لله أيامُ الشبابِ وعصرُه لو يستعار جديدَه فيعارُ
ما كان أقصر ليلَه ونهارَه وكذاك أيام السرور قصارُ
قال آخر:
اثنان لو بكت الدماءَ عليهما عيناي حتى يؤذنا بذهابِ
لم يبلغا المعشارَ من حقيهِما فقدُ الشباب وفرقةُ الأحبابِ
أنشد الجاحظ عند الموت قول العتبي وقيل لأبي العتاهية:
عرِيتُ من الشبابِ وكان غَضًّا كما يَعرى من الورق القضيبُ
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوما فأُخبرَه بما فعل المَشـيبُ
فمع أننا نعلم أن مرحلة الشباب مرحلة تنتهي وتزول إلا أننا نتمنى أن تطول، كما أننا نخاف الشيب ولكنه أمر لا يُمكن الهروبُ منه إلا بالموت فنقبله مكرهين. نحنُّ إلى الشباب ونفر من الشيب إليه بخيالنا. ولا أنكر أنني عندما لاحظت انتشار شعيراتٍ بيضاء في رأسي تخوفت منها وأثارت إحساسي فقلت:
أرى الشَيْبَ يَسريْ والسـوادَ يـزولُ فيا ليتَ أيـامَ الشبـــابِ تَـؤُولُ
ويـا ليتَ أيامي التي قــد فقدتُها تعـودُ إلـيّ مــرةً وتَــطولُ
فيا صاحبي كيفَ السبــلُ إلى الصبا ولـستُ إلى طولِ الحيـاةِ أَميـلُ
ولكنني أهــوى من العمـرِ فَـترةً بها العيشُ حلـوٌ والهمـومُ قليلُ
فظـلَّ صديقـي صامِتـاً متحـيراً وسحّت دمـوعٌ في الـترابِ تَسيلُ
ولاحَ لعيـني شَعْــرُهُ مُتَشَعْشِعـاً وشَعْـرٌ قليـلٌ في البيـاضِ دَخيلُ
وقال بصـــوتٍ خافتٍ متأثـراً وبان على وجـهِ الصديـقِ ذُهولُ
إذا ما علومُ الطبِّ تكشِـفُ غامضاً فلـيس إلـى ذاك السـبيلِ سبيلُ
فيا لكَ مـن قولٍ صحيحٍ سمعتُـه وكِـدتُ كما قــالَ الصديقُ أقولُ
فـواللّهِ مـا في الطّبِ للشَيْبِ بلسـمٌ ولا في خِضابٍ للشبــابِ بديـلُ
فضائل الشيب:
وهناك من لم يتأسف على الشباب بل رحب بالشيب مثل ابن أبي متى الذي قال:
قالت عهدتُك مجنونا فقلت لها إن الشبابَ جنونٌ برؤهُ الكبرُ(4)
قيل إن نبي الله إبراهيم عليه السلام لما بدا عليه الشيب قال: يا رب ما هذا ؟ قال: الوقار، قال ربِّ زدني وقاراً (3). وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: من شأن الملوك إذا استوزروا أن يستوزروا المشايخ الذين اجتمعت لهم الحيلة والرياسة والعلم والتجربة(3).
وقيل:
ولي صاحبٌ ما كنت أهوى اقترابَه فلما التقينا كان أكرمَ صاحبِ
عزيز عليَ أن يفارق بعدما تمنيت دهراً أن يكون مجانبي
يعني الشيب. يقول لم أكن أشتهي اقترابه، فلما حلَّ كان أكرم صاحب علي، ولم أحبَّ مجانبته (الإبتعاد عنه)، لأنه لا يجانب إلا بالموت (3).
أما الفرزدق فأنه شبه الشيب عندما يدخل على الشباب بالنهار الذي يشرق على طرفي الليل عندما قال:
والشيبُ ينهض في الشبابِ كأنه ليلٌ يصيحُ بجانبيه نهارُ
وقيل: المشايخ أشجار الوقار ومنابع الخيار، لا يطيش لهم سهم، ولا يسقط لهم وهم، إن رأوك على قبيح صدوك أو على جميل أمدوك.
دخل أبو دُلف على المأمون وعنده جارية وقد ترك أبو دلف الخضاب فغمز المأمون الجارية فقالت: شبت أبا دلف، إنا لله وإننا إليه راجعون عليك. فسكت أبو دلف ثم قال له المأمون: أجبها أبا دلف، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال:
تهزّأت أن رأت شيبي فقلت لها لا تهزئي منْ يطلْ عمرٌ به يشبِ
شيبُ الرجال لهم زَينٌ ومكرُمةٌ وشيبكنّ لكنّ الويلُ فاكتئبي
فينا لكنّ وإن شيبٌ بدا أربٌ وليس فيكنّ بعد الشيبِ من أربِ(4)
آثار الشيب:
قيل لأعرابي قد أخذته السن: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تقيدني الشعرة وأعثُر بالبعرة، قد أقام الدهرُ صَعَري بعد أن أقمت صعره (تكبره). وأصل الصَعَر مرض يسبب ميل الرقبة فاستعير للمتكبر لأنه يميل رقبته عن الناس.
دخل المستوغر بن ربيعة على معاوية بن أبي سفيان وهو ابن أكثر من مائة سنة فقال: ما تجدك يا مستوغر؟ فقال: أجدني يا أمير المؤمنين قد لان مني ما كنت أحب أن يشتد واشتد مني ما كنت أحب أن يلين وابيض مني ما كنت أحب أن يسود وأسود مني ما كنت أحب أن يبيض، ثم أنشأ يقول:
سلني انْبئْك بآيات الكبرْ نومُ العِشاء وسعالٌ بالسحرْ
وقلة الزاد إذا الزاد حضرْ وتركك الحسناء من قبل الظهرْ
والناس يبلون كما يبلى الشجرْ
ضعف البصر:
ومع تقدم السن يطرأ اغبرار على عدسات العيون يسمى طبيا "كتراكت" ويُطلق عليه العرب "الماية البيضاء" فيضعف البصر وقد يسبب العَمى إذا لم يعالج بالجراحة.
قال إدريس بن عبد الكريم المقرئ:
أَرى بصري في كلّ يومٍ وليلةٍ يَكِلُ وخَطْوي عن مداهُنَّ يَقْصُرُ
ومن يَصحبِ الأيامَ تسعينَ حِجةً يغيِّرنهُ والـــدهرُ لا يتغيّرُ
لَعمْري لئن أمسيتُ أمشي مقيداً لما كنتُ أمشي مُطْلقَ القيدِ أكثرُ(5)
ضعف السمع:
وأما ضَعفُ سمع كبار السن فيعالج الآن بالسماعات الطبية ولكنْ قديما يحتاج ضعيف السمع إلى من يصرخ في أذنه وكأنه يترجم لَه لغة المتحدث وقد قيل:
إنّ الثمانين وبُلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
مرض الركبتين:
وبجانب ضعف السمع والبصر مع تقدم السن يكون أيضا ألم الركبتين بسبب تآكل المفاصل نتيجة للاستعمال الطويل. ولم يكن عند العرب قديما علاج ولا دواء يخفف ألم الركبة لذلك قال جرير:
تَحنُّ العظام الراجفات من البلى وليس لداءِ الركبتين دواءُ
ضعف القوى الجسمية:
ضعف القوى العضلية والحاجة إلى الاستعانة بالعصا أمر حتمي مع تقدم السن إلا أنه يمكن أن يؤخر بممارسة الرياضة إلى سن متأخرة جدا. ولما بلغ زهير التسعين وصار في حاجة إلى العصا والانحناء على الأرض ودفعها بالراحتين للقيام قال:
كأني وقد جاوزتَ تسعينَ حِجة خلعت بها عني عذار لجامي
على الراحتين تارة وعلى العصا أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
أما لَبيد فقد عبر عن ذلك تعبيرا دقيقا ووصف قيامه وكأنه يركع:
أليس ورائي إنْ تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابعُ
أخبر أخبار القرون التي مضت أدِبُّ كأني كلما قمـت راكعُ
ومن المعروف أن الإنسان عندما يعتريه ضعف القوى العقلية بجانب ضعف القوى العضلية لتقدم السن فإنه يبدأ بنسيان الحديث قبل القديم. فقد ينسى ما أكله في الصباح ولكنه يتذكر تفاصيل مذهلة عن أحداث تمت أيام صباه. وقد ذكر أبو عبيدة أنه قيل لشيخ ما بقيَ منك؟ قال: يسبقني مَنْ أمامي ويدركني مَنْ خلفي وأذكر القديم وأنسى الحديث وأنعس في الملا وأسهر في الخلا وإذا قمت قربت الأرض مني وإذا قعدت تباعدت عني.
التشاؤم بالشيب:
قال التهامي:
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً خُلُق الزمانِ عداوةُ الأحرارِ
وتلهُّبُ الأشياءِ شـيَّبَ مفرقي هذا الشعاع ضِياء تلك النارِ
لا حبذا الشيـبُ الوفيُّ وحبذا ظلُّ الشباب الخائن الغدارِ(3)
وقيل:
إذا ما الشيب جار على الشبابِ فقد قرب الرحيل إلى الترابِ
خُلِقتُ من التراب بغير ذنبٍ وعدت من الذنوب إلى الترابِ
قال يحيى البرمكي:
الليلُ شيَّبَ والنهارُ كلاهما رأسي بكثرة ما تدورُ رحاهما
الشيبُ إحدى الميتتين تقدمت أولاهما، وتأخـرت أخراهما
التندر والتفكه بالشيب:
سُئل جراب الريح عن امرأته العجوز كيف حسنها؟ قال: هي كباقةِ نَرْجسٍ رأسها أبيض، ووجهها أصفر ورجلها خضراء(5).
وقال ابن طباطبا الرسي:
قالت أراك خضبتَ الشيبَ قلتُ لها سترتُه عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهتْ ثم قالتْ مِن تعجُبِها تكاثر الغِشُّ حتى صار في الشَّعَرِ
وجوب احترام الكبير:
زاحم شابٌ شيخا في طريق وقال يُماجنه: كم هذا القوس؟ – يعيره بالإنحناء –فقال له الشيخ: إن طال عمرُك فإنك تشتريه بلا ثمن. لقد صدق الشيخ فتلك سنة الحياة ولا يجوز فيها المعايرة أو التهكم بل يجب احترام الكبير ولو لكبر سنه فقط، وقد أمر النبي (ص) باحترام كبار السن، فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: جاء شيخٌ إلى النبي (ص) في حاجة، فأبطأوا عن أن يوسِّعوا له، فقال: ليس منا من لا يرحمُ صغيرنا، ويوقرُ كبيرنا.
المراجع:
1. مجلة الصحة عدد2.
2. فقه اللغة للثعالبي
3. المخلاة لبهاء الدين العاملي
4. العقد الفريد ج2
5. البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي.