top of page

لقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن معنى كلمةِ القلبِ في اللغة العربية، وفهمَ العرب أن القلب مركزُ العقلِ وختمنا بقول عمر بن أبى ربيعة:

وما سُمي القلبُ إلا من تقلُّبه             ولا الفؤادُ فؤاداً غير أن عقلا

وسأتحدث في هذه الحلقة والحلقة التي تَليها، عن الأصول اللُغوية لبعض الكلمات المرتبطة بالطب في اللغة، كالقلب والفؤاد والكبد، وكيف اكتسبت هذه الكلمات، معانيها التي قد تتفق وقد لا تتفق مع المعاني الحديثة، التي نعرفها لوظائف الأعضاء، مجتهداً ومستعيناً بتاريخ الطب.

6- أدب القلب:

الحديث عن موضوع (القلب بين الطب والأدب) هو حديثٌ عن أدب القلب. وأقصد بأدب القلب ما كُتب عن القلب في علوم الطب والأدب العربي. فالحديث عن القلب في الأدب سيكون مقصوراً على تراثنا الأدبي شعراً ونثراً.

أما بالنسبة للطب فإني سأغرفُ من الطب الإنساني الواسع، منذ نشأته السحرية إلى أن أصبح علماً حقيقياً. وكلمة الطب في اللغة العربية لا تعني علاج الجسم والنفس فحسب، كما نعرفها اليوم، ولكنها تعني السحر أيضا.  لذلك قال ابنُ الأسلت يهجو حساناً(1):

ألا مَنْ مبلغٌ حسان عني         أطبٌ كان داؤك أم جنون

يقصد أسحراً كان مرضك أم جنوناً. ولذلك سمّي المسحور "مطبوباً" وقد يكون سبب ذلك راجعٌ إلى أن جذورنا العربية متصلة بالحضارة البابلية، التي نشأ وتفرع فيها الطب من السحر. ولا عجبَ في أننا في الخليج نستعمل كلمةَ الطب بمعنى السحر في لهجتنا المحلية أيضا. وقد سمعت من أصدقاء ومن مرضى أن فلاناً عمل له "طب" أي صنع له سحر. ومن الحكايات المحلية التي نسمعها منذ الطفولة، أن السبب في عشق فلان لفلانة أنها عملت له طباً ليعشقها، فاستحوذت على قلبه.

والحديث عن القلب في الأدب العربي حديث عن الحب، حيث إن العربَ اعتبروا القلب مركزَ الحب، وهذا موضوع سأتناوله بالتفصيل مستقبلاً إن شاء الله.

وعندما أتحدث عن أدب القلب، فإني أقدم للقراء مأدُبةً وعاؤها اللغة، وقِوامُها الطب، وفاكهتها الأدب.

فقصصُ الحب أو "القلب" في أدبنا العربي والمرادفاتُ اللغوية للفظة القلب كالفؤاد واللب وغيرهما، ارتبطت ارتباطا وثيقاً بالطب، الذي ارتكز على المعرفة البدائية لوظيفة القلب في الجسم منذ فجر التاريخ. لذلك فإنه لا يُمكن الحديثُ عن القلب بمعزل عن الحديث عن تاريخ الطب، وعلاقته بالقلب منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا.

7- أصول المصطلحات الطبية في اللغة:

قبلَ الخوضِ في تاريخ الطب، لا بد أن نعود للحديث الذي بدأناه في الحلقة الأولى عن هذه اللغة، اللغة العربية، وعاءِ هذه المأدُبة التي أقدمها. ننظر في أصولها وتطورها الذي سمح لها بقبول ألفاظ مثل القلب والفؤاد، بناءً على معانٍ صاغتها حضارات قديمة قبل أن يوجد الإنسان العربي كما نعرفه اليوم، حيث إن أكثر الألفاظ والمصطلحات التي وضعت لأعضاء الجسم نبعت من أفكار طبية بدائية قبلَ آلاف السنين، ثم انتقلت تلك المصطلحات أو معانيها الدالةُ على وظائفها في الجسم إلى أمم أخرى عبر القرون.

وبمرور القرون هذّبت الأمم تلك المصطلحات "الطبية" إلى ألفاظ تلائم لغاتها المختلفة، وتساير آدابها وتطورها. وبعد قرون من التهذيب والتطوير، أصبحت تلك الألفاظ اللغوية جزءاً من آداب الأمم وتراثها الذي تفخر به. وتعذر علينا اليوم إدراكُ أيةِ علاقة بين تلك الألفاظ "القومية" لكل أمة وأصلِها الحضاري القديم، كما تعسّر على الباحث الحصول على أصول مثل تلك الألفاظ المبنية على الطب القديم بالبحث في القواميس اللغوية لأن أصول تلك الألفاظ أقدم بكثير من أي قاموس يمكن العثور عليه، وخاصة أن اللغات التي قام عليها الطب القديم كاللغات المصرية القديمة والبابلية قد انقرضت.

كما أن الحضاراتِ الأجنبيةَ أخذت مصطلحاتٍ عربيةً كثيرةً في العلوم عامةً والطب خاصةً مثل الكحول، والوريد الصافن (في الساق) والنخل (في الرقبة). فلا يَعيب العربَ ولا يَعيب لغتهم أخذُ ألفاظٍ ومصطلحاتٍ من أمم وحضارات أخرى، يتم تعريبها بمرور القرون فتصبحُ "عربية" بالاصطلاح والاستعمال. فالقرآن الكريم يحتوي على بعض الكلمات الأجنبية التي اصطلح العرب على استعمالها في لغتهم واعتبرت جزءاً من اللغة العربية بمرور السنين فلذلك وصف الله سبحانه القرآن بأنه عربي (إنا أنزلناه قرآنا عربياً). فالحضارات تقتبس من غيرها ومما قبلها، علوما وأفكاراً ومعارف تبني عليها وتطورها.

8- إنسان العين:

لو نظرنا مثلاً في عين الإنسان ودققنا النظر في حدقتها وتساءلنا كيف أطلق أجدادُنا العرب كلمة "إنسان العين" على تلك الحدقة؟ وهل كانت تلك الحدقة "إنسانةً" في خيال شعرائنا المبدعين مثل جرير؟ الذي قال(2):

أتبعتهم مقلةً إنسانُها غرِقٌ                هل ما ترى تاركٌ للعين إنسانا؟

أو في خيال شيخ الشعراء العشاق ابن الفارض الذي قال(3):

ما للنوى ذنبٌ ومن أهوى معي           إن غاب عن إنسان عيني فهو في

أي إن غاب عن حدقة عيني فهو في قلبي. أم أن "إنسان العين" مصطلح نشترك فيه مع أمم ولغات أخر؟

 فالإسبان سموا الحدقة  "Mina de les ojos"  أي "صبية العينين" ولا أعتقد أن تلك التسمية بسبب تأثير العرب في الأسبان لأن الإنجليز أيضا سموا الحدقة "Pupil"  أي "الولد أو البنت القاصر" تحت سن البلوغ. وهذه التسمية الإنجليزيةُ هي المصطلحُ الطبيُ الذي نتداوله اليومَ، وهي تسميةٌ مشتقةٌ من أصل لاتيني حيث إن الحدقة في اللغة اللاتينية "Pupilla"  أي "البنت القاصر" وهو مصطلح مقتبس من اللغة الإغريقية لأن الإغريق سمو الحدقة "كوري" أي "الشابة"(4) ومع أن الحضارة الإغريقية هي أقدم الحضارات في أوروبا، إلاّ أن الإغريقَ لم يخترعوا التسمية المذكورة أعلاه للحدقة، فقد أخذوا التسمية من حضارة أخرى أقدم من حضارتهم بقرون وهي الحضارة المصرية. فالمصريون القدامى أول من أطلق على حدقة العين اسم "شابـة العين" ولا يستبعد أن العرب أخذوا تلك التسمية منهم، إذ لا يمكن أن تكون تلك التسمية المتشابهة لحدقة العين بين أمم مختلفة محض صدفة، ولكن لا بد من أنها انتقلت من حضارة إلى أخرى كما ذكرت سابقا .

كذلك تسمية القلب قلباً في اللغة العربية ومشتقات هذه الكلمة مثل الفؤاد، لها أصول في حضارات قديمة مبنية على نظريات طبية بدائية وخاطئة، أخذها العرب منذ القدم بتلك المعاني نفسها، فعلقت بلغتنا كما علقت بلغات أخرى بنفس المعاني، وأصبحت هذه الألفاظ جزءاً من تراثنا، كما أصبحت جزءاً من تراث أمم أخرى غيرنا، وامتزج الطب باللغة والأدب في هذه الألفاظ، ولذلك جاز لي أن أعتبر أدب القلب مائدة أقدمها للقراء.

لقد ذكرت في الحلقة الأولى أن العرب القدامى لم يفرقوا بين القلب والعقل والفؤاد، وأن كلمة الفؤاد مشتقة من (فأد) أي شوى والمفتأد مكان شي اللحم ذكره النابغة الذبياني عندما وصف ثوراً وحشياً يطعن كلب صيد بقرنه (5):

شكَّ الفريصةَ بالمِدرى  فأنفذَها            شكَّ المُبيطرِ إذ يَشفي من العَضَدِ

كأنه خارجاً من جنب صفحته             سَفُّودُ  شَرْبٍ  نَسَوهُ   عند   مُفتأدِ

المبيطر: طبيب الدواب (البيطار) والعَضَد مرض يصيب الحيوان، والسفود حديدة كالعود يشوى فيه اللحم، ومفتأد محل شي اللحم، فمعنى (التفؤد) التوقد وسمي القلب فؤاداً لتوقده.

فمن أين أتت فكرة التوقد للقلب عند العرب حتى سموا القلب فؤاداً؟

                                                                    (يتبع)

المراجع:

(1) لسان العرب لابن منظور.

(2) ديوان جرير.

(3) ديوان ابن الفارض.

(4) بول غليونجي: قطوف من تاريخ الطب.

(5) ديوان النابغة الذبياني.

bottom of page