top of page

الحب في الطب الحديث

مقدمة:

العشق كما نسميه نحن العرب، أو الحب الرومانسي كما يسميه الغربيون، هو شعور عاطفي قوي يحس به فرد نحو فرد آخر. ولكن لماذا سميت الفصل السابق (العشق والحرمان في الطب الحديث) وسميت هذا الفصل (الحب والوصال في الطب الحديث)؟ أليس العشق هو الحب؟

 

العشق فرط الحب، ففي العشق إفراط وتكلف، كما أن العشق اقترن بالمرض في المفهوم الطبي بينما الحب قد يقترن بالصحة. ومعاجم اللغة تؤكد هذا المعنى عند العرب منذ القدم، ففي لسان العرب لابن منظور: سئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشْقِ: أَيّهما أَحمد؟ فقال: الحُب لأن العِشْقَ فيه إفراط، وسمي العاشِقُ عاشِقاً لأَنه يَذْبُلُ من شدة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إذا قطعت، والعَشَقَةُ: شجرة تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ.

 

ويختلف الحديث في هذا الفصل عن الفصول الأخرى في هذا الكتاب، حيث إني في هذا الفصل سأسرد ما توصل إليه العلماء من أطباء ودارسين للحب الذي لا يشوبه صد أو هجر أو حرمان. سألقي الضوء على أسرار الحب الفسيولوجية أو البيولوجية. كما سأتناول دراسات وبحوثاً علمية حديثة تمت على الحيوانات، أظهرت أن للحب دوراً في علاقات الحيوانات أيضاً.

فالحب وحالاته العاطفية المختلفة نادراً ما كان يبحث بالوسائل العلمية. و قد يكون ذلك لأن الحب كان دائماً من اختصاص الشعراء والفنانين وعدد قليل من علماء النفس والأطباء. ولم يدخل الحب في نطاق العلوم التجريبية كالعلم البيولوجي للأعصاب(1). فلم تهتم العلوم الأساسية بالحب والعشق إلا حديثاً، مع أن الحب كان إلهاماً لبعض أعظم الإنجازات البشريّة(2).

 

وقد بدأ الآن التركيز على الحب ودراسته في أبحاث علوم الحيوان والنفس والأعصاب، لتوضيح تأثيراته البيولوجية وآثارها. ففي الآونة الأخيرة، ظهرت بحوث مثيرة بينت معلومات مفصلة عن المكونات الجزئية والعضوية في الدم لظاهرة الحب. فأصل كلمة "الحب" في اللغة الإنجليزية مشتق من معنى كلمة "رغبة" (Desire)  وتشوق و"ارتياح" ولها جذور مشتركة مع "الغريزة الجنسية"(3).

 

وقبل الاسترسال في الموضوع، لا بد أن نعرف مصطلحات الحب التي ستتكرر في هذا الفصل المبني على دراسات ومراجع أجنبية باللغة الإنجليزية. فليس لكلمة العشق العربية كلمة واحدة بنفس المعنى في اللغة الإنجليزية، فالعشق يقابله الافتتان الشديد والهوس الجنوني في اللغة الإنجليزية، ولكن أقرب مصطلح للعشق بالإنجليزية هو الحب الرومانسي. والقواميس الإنجليزية تعرف الحب بألفاظ باردة إذا ما قارناها بالمعاني العربية الملتهبة للحب. حتى إن أحد معاني لفظ "حب" بالإنجليزية الحصول على صفر في لعبة التنس. ولكن إذا أخذنا أفضل المعاني المعجمية عندهم فقاموس أكسفورد يعرف الحب بأنه مشاعر محبة عميقة وولوع بشخص أو بشيء، أو تعلق خيالي أو جنسي بشخص. والحب الرومانسي حب خيالي عميق قد يكون وقد لا يكون متأثراً بالرغبة الجنسية، أي إن العواطف فيه تطغى على المتعة الجسدية. وعرف بعض المختصين الحب، بأنه الالتزام والمودة و الهيام والحزن والأسى عند الانفصال والغيرة(1).

ومن أهم ملامح الحب الرومانسي أنه موصوف منذ القدم بالداء أو الجنون. ووصفه بعضهم بأنه مثل الحمى تأتي وتذهب بصورة لا إرادية. وأن المحب مشغول في التفكير بالحبيب وصورته، ينظر إلى الحبيب بصورة مثالية. فكل شيء يخص الحبيب جميل. فالقبح والبشاعة لا تشكل مشكلة للمحب، لأنه لا يرى في الحبيب إلا جمالاً. ويشعر المحب بالرغبة في أن يكون مع الحبيب دائماً في مكان واحد.

 

وأضاف بعضهم أن للحب علاقة قريبة بالثواب والسعادة والسلوك الإدماني(4). كما أن للحب وظيفة بيولوجية هي المحافظة على بقاء النوع أو الجنس من الانقراض بالترابط الاجتماعي والتجمع والإنجاب(5).

 

الحب بين الحيوانات الثديية:

لقد شاع لا في مجتمعاتنا العربية فحسب ولكن حتى في المجتمعات الأجنبية البحديثة عن الحب بين الطيور كالعصافير والحمام. وأدبنا العربي زاخر بالأشعار عن حب الطيور وخاصة الحمام مثل قول عنترة:

إِذا نادى قَرينَتَهُ حَمامٌ       جَرى لِصَبابَتي دَمعٌ سفوحُ

وقول المجنون:

أَإِن سَجَعَت في بَطنِ وادٍ حَمامَةٌ       تُجاوِبُ أُخرى دَمعُ  عَينِكَ دافِقُ

كَأَنَّكَ لَم  تَسمَع  بُكاءَ   حَمـامَةٍ       بِلَيلٍ  وَلَم  يَحزُنكَ  إِلفٌ  مَفارِقُ

وقول ذي الرمّة:

هَوىً لَكِ ما يَنفَكُّ يَدعوكِ ما دَعا       حَماماً بِأَجزاعِ العَقيقِ حَمامُ

 

ولكني لم أبحث في حب الطيور، بل بحثت في حب الحيوانات الثديية لأنها أرقى وأقرب للإنسان من الطيور.

ولم أصدق الشاعر الجاهلي المنخّل اليشكري في قوله:

وأحبُّــها   وتحـبني       ويحبُّ  ناقتها  بعيري

 

ولداروين نظرية في اختيار الطبيعة للأصلح من الحيوان للبقاء، يقبلها بعض العلماء ويخالفها غيرهم. فنظرية داروين تقول باختصار إن الفصيلة أو الفرد من الكائنات الحية يعيش ويتناسل إذا كانت عنده خواص قابلة للتطور حسب ظروف وتطور البيئة التي يعيش فيها، وإلا فمصيره الانقراض. كما أن الطبيعة تفضل بعض الجينات للبقاء بمرور الزمن. وبعض الجينات تبرز بالطفرة أحيانا فتجعل كائنا يقدر على العيش في بعض الظروف القاسية فيتناسل، بينما الذي لا يملك تلك الجينات ينقرض.

 

لقد اعتبر تشارلز داروين الحب الرومانسي لاختيار رفيق الحياة، شيئاً أساسيًّا من الاختيار الجنسي للنوع (نفس الفصيلة)، حيث إن الفرد من جنس واحد قد اكتسب بالتطور سِمات وأشكالاً جنسية تجذب الجنس الآخر إليه. فكثير من الفصائل الحيوانية كالثدييات والطيور قد طورت سلوكاً وخواصَّ وأشكالاً جسدية مغرية، كذيل الطاووس الجميل مثلاً، لإغراء وجذب الزوج(6).  

 

وتتم المغازلة بين الحيوانات الثديية بزيادة الطاقة والاهتمام وجلب الانتباه، لغرض الفوز بالشريك المفضل للتزاوج. وتدوم المغازلة والافتنان بين الحيوانات دقائق أو ساعات، بينما عند الإنسان تستمر سنة أو سنتين في بداية الحب. فالحب الرومانسي أو العشق ظاهرة عالمية في البشر. ولكن الحب لا يقتصر على الإنسان وحده بل لوحظ في الحيوانات الثديية أيضاً(7).

 

لقد لاحظ أحد علماء الحيوان في محمية حيوانات في جزيرة (بورنيو) الإندونيسية كيف وقع "إنسان الغابة" Orangutan في غرام أنثى من نوعه. قال الباحث: "كنت أعتقد أنه سيختار أنثى جميلة ولكنه أصبح متيماً بأنثى معينة لا يستطيع أن يصرف عينه عنها. ولم يأكل بل كان مسحوراً بإغرائها"(8 ،9)

 

التطور الإيجابي للكائنات الحية هو أيضًا تطور للنوع عبر القرون، حسب نظرية داروين ""البقاء للأصلح"، حيث يتم اختيار العوامل البيولوجية أو الجينات القادرة على مقاومة التوتر والضغط النفسي بوسائل سلوكية، كالرغبة الجنسية والحب. فالسعادة والمتعة والصحة والاتصال والدعم الاجتماعي كلها لها علاقة بالحب. فالحب لأنه يحد من التوتر ويقي منه يمثل عاملاً هامًّا للبقاء، وقد تم اكتسابه عبر العصور. وقد يكون ذلك هو السبب في أن الكائنات البيولوجية المتطورة كالبشر، تميل إلى البحث عن السرور والمتعة لتخفيف التوتر من أجل البقاء والديمومة(5).

وللحب خواصُّ بيولوجية وعصبية يمكن دراستها فيما تفرزه من مواد كيماوية في دم الحيوان أو الإنسان. فالحب ظاهرة عصبية معقدة، تعتمد على التفاعلات داخل المخ. فللمواد الكيماوية والهرمونات الجسمية دور حيوي في عملية الحب. كما أن متعة الأنشطة الجسمية ضرورية للبقاء، ودافع مفيد للسلوك البيولوجي مثل الأكل والجنس وإنتاج الأطفال. فهناك قاعدة عريضة من الإشارات المشتركة ذات الخصائص البيولوجية لمفهوم الحب(5).

فالعزلة والقلق والخوف وغيرها من أشكال الضغط النفسي أو التوتر مرتبطة بزيادة إفرازات هرمونات (الكرتزون) Cortison  في الدم، التي غالبًا ما تشجع على التفاعلات الاجتماعية. غير أن التوتر المفرط أو المزمن يضر بالصحة والبقاء ويعرقل تشكيل علاقات جديدة ومودة، مما يزيد العزلة الفسيولوجية والاجتماعية والإحساس بالحرمان، وينتج عنه خلل بموازين التفاعلات الحيوية في الجسم فيؤثر في الصحة(10،11).

 

فبينما يؤدي الضغط النفسي أو التوتر العصبي الحاد إلى زيادة الإنجاب في الحيوانات، فإن التوتر المزمن يؤدي إلى تقليل الإنجاب بشدة. علاوة على ذلك، فإن تزايد الكثافة العددية في القوارض مثلاً، يزيد الضغط الاجتماعي والتصرفات العدوانية بين تلك الحيوانات، يرافقها زيادة معدلات الخصوبة. ولكن تلك الحيوانات معرضة للأمراض، مثل ضغط الدم وتصلب الشرايين وأمراض الأعصاب والقلب والكلى، أكثر من الحيوانات غير المتزاحمة. فمن المهم للكائن الحي الوقاية من التوتر والعزلة الاجتماعية، وهذا ما يفعله الحب، لأنه يخفف التوتر ويحافظ على الصحة(12). إذ إن هناك علاقة علاجية بين الحب والتوتر النفسي، فالفرد القادر على مقاومة التوتر بشكل أفضل يملك حصانة جسمية أفضل وقدرة جنسية أقوى. لذلك فهو أقدر على البقاء والإنجاب وتوريث تلك الخواص (الجينات) البيولوجية للنسل(5).  

 

الفوائد الصحية للحب:

الأنشطة التي تجلب السرور مثل الحب تنشط مناطق في المخ مسؤولة عن المشاعر والتركيز والذاكرة. وربما تتحكم الأنشطة السارة بالجهاز العصبي، وتخفض الضغط النفسي. ففي ممارسة متعة الحب حماية للدماغ. وفي الحب والسعادة محافظة على صحة الفرد والنوع وتشجيع على التوالد. فالحب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المتعة والسعادة والشعور النفسي الجيد أو الراحة الذهنية. ولذا أصبح مشمولاً في مواضيع علم النفس، وكذلك في البحوث العلمية الأساسية كعلم الأعصاب والطب(13).

 

ويمكن أن يسبب الحب ضغطاً نفسيًّا، وخصوصًا في بداية الوقوع فيه، ولكنه بعد ذلك يساعد على خفض الضغط النفسي. فالحب عنصر أساسي من عناصر الحياة الصحية الممتعة، وهو الذي يقود إلى التناسل والتكاثر(14). وقد أثبتت دراسات علمية أن الحب في ظل الظروف المناسبة، مفيد للصحة لأنه ينهي الضغط النفسي المزمن(15). كما تبين أن الحب والحنان والفرح، ينشط الحصانة الجسمية ويجعلها تعمل بصورة أفضل، وبذلك تساعد على مقاومة الأمراض(16). أما الحرمان المولد لليأس والكآبة فمضر للصحة ومثبط للحصانة الجسمية ومشجع على الأمراض كما حدث للمجنون.

 

فالحب والمتعة والسعادة تؤثر في مناطق محددة من الدماغ. كما أن الحب والسعادة الناتجة عنه يحفز الجسم على التئام الجروح والنمو والتطور، ويساعده على تحفيز الصحة والعافية أو استعادتها والمحافظة عليها، أي إن للحب القدرة على الشفاء الذاتي. فالحب آلة بيولوجية للإنجاب والتكاثر وصيانة الأنواع والكائنات. كما أن في الحب متعة وفائدة للصحة وضمانًا لبقاء النوع(17).

 

وخلاصة الأمر أن الحب والمتعة والسعادة تخفض الضغط النفسي وتنهض بالصحة وتساعد على بقاء الفرد والجنس من الانقراض. فالحب على أي حال، شيء سار ونشاط مفيد يعزز الصحة والشعور بها إن لم يشبْه نأي وهجر وفراق(5). فإن وقع الهجر تحول النعيم جحيماً، يلاقي فيه المحب المرض والألم كما أشار المجنون:

 

فَيا لَيتَ هَذا الحُبَّ يَعشَقُ مَرَّةً       فَيَعلَمَ ما يَلقى المُحِبُّ مِنَ الهَجرِ

فإن جفا الحبيبُ محبا،ًّ كان الموت أحب للمحب من الحياة كما قال عنترة:

وَهَلاكي في الحُبِّ أَهوَنُ عِندي       مِن حَياتي إِذا جَفاني الحَبيبُ

 

الحب والجنس:

الحب غالباً ما يبدأ بتجاذب بين شخصين، يليه ارتباط قابل للاستمرار إلى الأبد(5). والحب هو الخطوة الأولى في تكوين الروابط بين شخصين، بما فيها من العلاقات العاطفية والجنسية والإنجاب والسعادة. فالحب يحقق جميع الأهداف البيولوجية التي تتجاوز الإنجاب وحده، لأن الحب علاقة طويلة الأمد، تتعلق بالثقة والإيمان، فتضمن الدعم والحماية في ظروف مختلفة. والنشاط الجنسي يمكن أن يحدث في غياب المحبة، وليس كل محبة تنطوي على سلوك جنسي. إلا أن الشريك الجنسي في البشر غالباً ما يكون هدفاً لمشاعر الحب(5). فالمودة والرغبة الجنسية والسعادة الكامنة في الحب لا تعتبر مكافأة للفرد فحسب، ولكنها خبرات مفيدة بيولوجيًّا لحماية النوع أو الجنس من الانقراض.

 

والرغبة الجنسية تتميز بالحاجة للإشباع الجنسي. وهي المرتبطة بالهرمونات الجنسية الذكرية (التيستوستيرون) Testosterone  في القرود والبشر، وفي كلا الهرمونات الذكرية والأنثوية في الحيوانات غير الثديية. ويميل البشر إلى المزيد من النشاط الجنسي إذا زاد معدل هرمون (التيستوستيرون) في الدم. وتميل النساء إلى المزيد من الرغبة الجنسية أثناء الإباضة عندما يرتفع معدل (التيستوستيرون). ومع انخفاض هرمونات الذكورة هذه مع تقدم السن ينخفض النشاط الجنسي في كلا الجنسين(18، 19).

 

فهرمونات الذكورة هرمونات أساسية للاتصال الجنسي، وليس لها علاقة بمشاعر الحب الرومانسي. كما أن استعمال هذه الهرمونات للتنشيط الجنسي لا يؤدي إلى حب رومانسي(7). وقد يعتقد البعض أن العشق أو الحب الرومانسي رغبة جنسية ليس إلا. وذلك اعتقاد خاطئ كما بينته دراسات عديدة. فقد أثبتت بحوث أجريت في مجتمعات إنسانية مختلفة أن الحب الرومانسي أو العلاقة العاطفية مستقلة عن الرغبة الجنسية في الإنسان(20). وهذا ما تفاخر به العشاق العذريون عند العرب مثل المجنون حيث قال:

أحبك يا ليلى على غير ريبة              وما خير حبٍّ لا تعِفُّ ضمائرهْ

ويمكن تلخيص الفروق بين الحب الرومانسي والرغبة الجنسية كالآتي:

1. الرغبة الجنسية تركز على هدف محدد وهو الاتحاد الجنسي مع آخر. أما الحب الرومانسي فيركز على هدف مختلف وهو الوصال العاطفي.

2. الرغبة الجنسية تهدأ متى ما تحققت بالجماع، أما الحب الرومانسي فلا يقل بالجماع، وغالباً ما يستمر بلا هوادة لشهور أو حتى لسنوات.

3. مارس البعض الجنس مع أفراد لا يشعرون بالحب نحوهم، كما أن الكثير وقع في غرام أشخاص بدون اتصال جسدي معهم(21، 22).

4. الرغبة الجنسية تدفع الأفراد إلى بدء المغازلة والتزاوج مع مجموعة من الشركاء. أما الحب الرومانسي فيدفع لتركيز الطاقة على تزاوج فرد بفرد معينين فقط، لحفظ الوقت والطاقة(7). أي أن الرغبة الجنسية قد تتجه نحو مجموعة من الأفراد، أما الحب الرومانسي فيركز على فرد واحد بعينه(5). وهذا ما سميناه في حديثنا عن الحب العذري بالتوحيد في الحب الذي عبر عنه المجنون قائلاً:

 

سَرَت في سَوادِ القَلبِ حَتّى إذا انتَهى       بِها السيرُ وَارتادَت حِمى القَلبِ حَلَّتِ

وواللَهِ ما في القَلبِ شَيءٌ مِنَ الهَوى        لأُخرى  سِواها   أَكثَرَت   أَم   أَقَلَّتِ

 

ومن الواضح أن الحب الرومانسي أقوى من الرغبة الجنسية. فعندما يقابل الطلب الجنسي بالرفض لا يقتل المرء نفسه أو شخصاً آخر. ولكن رفض المحب أو هجره قد يؤدي إلى الانتحار أو القتل أو الوقوع في الاكتئاب الشديد. وافتتان المحب بالحبيب يجعله لا يبالي في الموت من أجله. فالرغبة في الوصال العاطفي تفوق الرغبة في الوصال الجنسي(7).

 

علاقة الحب والعواطف بالهرمونات الجسمية:

لا بد من مقدمة مبسطة عن علاقة الهرمونات الجسمية بالعواطف قبل الحديث عن الحب الرومانسي وآثاره الكيماوية في الجسم. فالغدد الصماء شبكة من الغدد مثل الغدة الدرقية Thyroid والبنكرياس والغدد الجنسية التناسلية (الخصيتين والمبايض) والأدرينالس Adrenals (الغدة الكظرية). وهذه الغدد تنتج الهرمونات وتنظم حرارة الجسم وحموضة الدم. والغدد الصماء هي الوسيلة الأساسية التي يترجم فيها جسم الإنسان مشاعره إلى أعمال بصورة آلية مستمرة، لا يعي بها الشخص ويستحيل وقفها.

 

ويعبر الفرد عن هذه المشاعر بتصرفاته الآنية مباشرة، ثم تتلاشى تدريجيًّا مع تلاشي إفرازات الغدة. فالهرمونات تتدفق في انسجام طبيعي إذا عبر المرء عن مشاعره تعبيراً تامًّا. فإذا كبت الإنسان أو أنكر تلك المشاعر فإنها تبقى معلقه معه مادام يحبسها. وقد تؤثر في تصرفاته بطرق غير مباشره فتؤدي إلى العصبية والقلق والاكتئاب والإمراض العضوية في الجسم. ولا يستطيع الفرد أن يختار المشاعر والعواطف، ولكن يستطيع التحكم في السماح لها أو كبتها. فالكبت الشديد للمشاعر تكون له عواقب وخيمة على الصحة.

 

الخوف:

من الممكن تلخيص جميع مشاعر الإنسان في شعورين أساسيين هما الحب والخوف. فالحب هو ما نناقشه بإسهاب في هذا الكتاب من جوانب مختلفة، أما الخوف فهو موضوع عارض في هذا الفصل. فكل أفعالنا تتم لسببين إما للحصول على المتعة من الفعل أو بسبب الخوف من عواقب عدم الفعل. فكلنا جرب الخوف مراراً. فهو شيء ضروري للحياة وللمحافظة عليها. وقد لا يكون الإنسان إنساناً بدون مشاعر الخوف. فالخوف أمر طبيعي للتحذير من الخطر والهروب منه. ولذلك افتخر عنترة بن شداد أن شدة خوف أعدائه من قتله لهم جعلهم يفرون من لقائه:

وَأَحصَنتُ النِساءَ بِحَدِّ سَيفي       وَأَعدائي لِعُظمِ الخَوفِ فَلّوا

وتحديد مخاوفنا يعطينا فرصه لمواجهتها، والعمل لإيجاد حل لها. فعندما ننكر مخاوفنا نجعل من المستحيل حلها، إذ ليس لدينا الحافز لمواجهه ما نرفض الاعتراف بجوده. فلماذا نرفض الاعتراف بمخاوفنا أو نحاول التحول عنها؟ لأننا خائفون من مواجهتها. نحن نخشى الخوف. وهناك علاقة بين الحب والخوف. وقد قال الشريف الرضي:

أَخافُكَ إِنَّ الخوفَ مِنكَ مَحَبَّةٌ       وَما كُلُّ مَخشِيّ العِقابِ مُحَبَّبا

إذا حدث أنك تحس بأن قلبك ينبض بشدة، وعضلات جسمك متوترة، وتنفسك يشتد، بينما لا تواجه خطراً واضحاً تعيه، فاعلم أن غددك الجسمية تعطيك رسالة هامة بما أفرزته من هرمونات في دمك، وهي أنك خائف من شيء ما. استمع إلى تلك الرسالة وحاول أن تعرف سبب الخوف الدفين في مشاعرك. ولهرمونات الغدة الكظرية دور مهم في مثل ذلك الإحساس.

 

الغدة الكظرية Adrenals:
العلاقة بين العقل والبدن علاقة متشابكة. فالغدة الكظرية أكثر الغدد التي توضح ذلك. فالضغط العاطفي يؤثر في إنتاج الغدة الكظرية للهرمونات. فالزيادة أو نقص هرمونات الغدة الكظرية يؤثر في الحالة العاطفية للإنسان. والقلق والخوف والغضب يحفز الغدة الكظرية فتفرز هرمونات أكثر، خصوصاً الهرمونات المنشطة (epinephrine, norepinephrine, and glucocorticoids) التي تزيد ضربات القلب وترفع ضغط الدم وتهيّئ الإنسان للقتال والصراع أو الهرب. وهذه هي ردة الفعل الطبيعية والفسيولوجية للاستجابة للحالات الطارئة الخطرة. فإذا كان القلق أو الخوف أو الغضب أمراً مزمناً، فإنه يضع الجسم في حالة مستمرة من التهيؤ "للمقاومة أو الهروب" مما يؤدي إلى إرهاق الغدة الكظرية. فزيادة إفرازات الغدة الكظرية تسبب تصرفات عدوانيّة وأحاسيس عاطفيّة شديدة. وقلة إفرازات هذه الغدة تسبب كآبة وقلقاً وإحساساً بالوحدة والشعور بالنقص وعدم جدوى الحياة.  

 

كيمياء الحب الرومانسي في الإنسان:

الحب الرومانسي مرتبط بسمات سلوكية ونفسية معينة كما تبينها الدراسات الغربية. فهو يبدأ عندما يرى المحب في الحبيب خواصَّ فريدة. ثم يركز المحب على الحبيب ويعظم سماته الإيجابية ويقلل من عيوبه وهو كما يقول العرب (الحب يعمي عن المساوئ). وقال الشاعر:

وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلة       ولكن عين السخط تبدي المساويا

وعند الفراق يعاني المحب القلق. وللمحب ردود فعل عصبية عندما يكون مع الحبيب مثل العرق وسرعة دقات القلب نتيجة لزيادة هرمونات الغدة الكظرية(7). كما أن رفض الحبيب له ردود فعل عصبية أشد (انظر فصل: العشق في الطب الحديث).

 

وفي دراسات على المحبين باستعمال التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، تمكن العلماء من ملاحظة التغيرات الطارئة على صورة المخ مباشرة بسبب التغيرات العاطفية أثناء البحث، كجعل المحب ينظر إلى صورة محبوبه. وهي تغيرات سببها إفراز الجسم لمواد كيماوية عصبية يفرزها المخ أو يتأثر بها. وتشير البيانات البشرية إلى أن الرجال ينجذبون أكثر من النساء للإشارات البصرية كالشباب والجمال. والنساء ينجذبن أكثر إلى الرجال أصحاب المكانة المرموقة والموارد المالية.

 

وإفرازات (النورإبنفرن) norepinephrine  من الدماغ لها علاقة بالمغازلة. فزيادة إفراز هذه المادة تزيد اليقظة والطاقة والأرق وفقدان الشهية كما تزيد التركيز. وهذه المادة تسبب زيادة ضربات القلب والعرق والارتجاف وتسهم في التجاذب العاطفي والحب والمغازلة. كما أن المغازلة في الثدييات والحب الرومانسي في الإنسان مرتبطان بهرمونات الدوبامين Dopamine  في المخ. فهذه البيانات تدعم القول إن الحب الرومانسي يختلف عن الرغبة الجنسية(21، 22). ولقد وجد أن مستويات معدل المادة الكيماوية العصبية  Neurotrophins  في الدم مرتفعة في المرحلة الأولى من الحبّ الرومانسيّ(2). ويبدأ الحبّ الرّومانسيّ في النّاس بالاهتمام المركّز بشدة على فرد واحد مفضّل، والتوق إلى الاتّحاد العاطفيّ بهذا المحبوب(23).

 

وللهرمونات والمواد الكيماوية العصبية (النيوروتروفينز) Neurotrophins علاقة بالحالة العقليّة المتغيّرة المرتبطة بالحبّ. ولقد بينت دراسة لأول مرة أن المرحلة الرّومانسيّة المبكّرة للعلاقة العاطفية –الحب الشديد أو العشق- مرتبطة بالتّغييرات في مستويات (النيوروتروفين) Neurotrophins وهي مواد وسيطة في مشاعر القلق والسلوك. ومن هذه المواد المادة الكيماوية العصبية Nerve Growth Factor (NGF) في دم العاشقين أو أصحاب الحب الرومانسي. ففي دراسة على تسعة وثلاثين شخصاً على علاقة حبّ رومانسي أو عشق، تبين أن معدل المادة العصبية NGF في بداية علاقاتهم أعلى بما يقرب الضعف (227: 123) عن المعدل في غير العاشقين من المجموعة المختارة للدراسة. وكلما زادت حدة العشق زاد المعدل في الدم ولكن بعد 12 – 24 شهراً من الزواج أو الوصال الدائم المستقر، تخف حدة الحب وينخفض المعدل في الدم إلى مستوى غير العاشقين(2).

 

وهرمونات الغدة الكظرية (الأدرينلز) Adrenals، والهرمونات الجنسية والدوبامين Dopamine، والمواد الجسمية المشابهة للأفيون وأكسيد النتروجين، التي تفرز خلال أنشطة جسمية ممتعة كالعملية الجنسية، متعلقة بالتفاعلات العصبية البيولوجية المرتبطة بالرد على الضغط والتوتر ومقاومته. فالضغوط العاطفية مثل الخوف والقلق يمكن أن تحدث تغييرات في القلب كاختلال النبض.

 

ويفرز المحب مستوى أعلى من (الكورتزون) بالمقارنة مع غير المحب. فالاتصال الجنسي يحفز إفراز الهرمونات الجنسية (أوكسيتوسن oxytocin وفيسوبرسن vasopressin). وهما المادتان الرئيسياتان في الحب والتزاوج. علاوة على ذلك، فالفيزوبريسين vasopressin المفرز بسبب الاتصال الجنسي يمكن أن يُحفز بإفرازات (التستاسترون)  Testosterone  كجزء من فسيولوجيا الجنس. وبما أن الحب والعملية الجنسية يجلبان المتعة فإنهما لذلك يسببان إفراز مادة الدوبامين Dopamine، والهرمونات العصبية التي تسبب اليقظة وزيادة الرغبة الجنسية. كل تلك العمليات المذكورة أعلاه تنشط العملية الجنسية والهرمونات الجنسية فتقود إلى المتعة والراحة(1).

فالحب يرفع معدل الكرتزون وهرمونات أخرى مما يسبب التوتر مع بداية العلاقة الاجتماعية. ثم تفرز الهرمونات الجنسية التي تعد للإنجاب والرضاعة. والهرمون الجنسي (أوكسيتوسن Oxytocin) مهم لعمليات الحب والغرام. وهو أيضاً يضمن قدراً من الثقة والإخلاص والتفاني، وهو الهرمون المهم والمفيد في خلق علاقات دائمة(24). وحصل الدوبامين Dopamine حديثاً على اهتمام من حيث تأثيره العصبي والنفسي لعلاقته بالمزاج. كما أن له علاقة ببداية العشق ثم بتأثيرات العشق الجانبية مثل إصابة العاشق بالإسهال بسبب التوتر المرافق للحب(5).

 

وختاماً وجدت وأنا أستعرض بعض دراسات الحب بحوثاً اجتماعية تدل على أن النظرة إلى الحب في المجتمعات البدائية الإفريقية، لا تختلف كثيراً عن نظرة العرب للحب وتشبيه حرارة الحب بالنار كما ذكرنا في أشعار المجنون. ولكن اللطيف في الأمر أن تصف امرأة بدوية كيف تخمد نار الحب بعد فترة من الوصال، وكأنها قرأت البحث العلمي الذي سردته أعلاه عن انخفاض المادة الكيماوية العصبية في الدم بعد الزواج أو الوصال الدائم.  فـ(نيسا) امرأة بدوية من صحراء كالاهاري، بوتسوانا، أفادت: عندما يكون شخصان معاً لأول مرة فقلباهما على نار وحبهما كبير جدًّا. وبعد فترة تبرد النار وهكذا يبقيان. ويواصل كل واحد حب الآخر، ولكن بطريقة مختلفة، فيها دفء وثقة"(25).

ألا يذكرنا ذلك بقول المجنون:

ذَكَت نارُ شَوقي في فُؤادي فَأَصبَحَت       لَها وَهَجٌ مُستَضرَمٌ في فُؤادِيا

 

 و(تايتا) امرأة في كينيا تقول: "إن الحب يأتي في شكلين. شوق لا يقاوم أي "نوع من المرض" ومحبة دائمة وعميقة للآخر"(26). ذلك النوع من المرض التي ذكرته بالفطرة المرأة الكينية هو الذي ذكره المجنون قبل قرون عديدة ولكنه ظنه مرضاً خاصًّا به فقط:

بِيَ اليَومَ داءٌ للهُـيامِ  أَصابَني       وَما  مِثلُهُ داءً  أَصابَ  سِوائِيا

المراجع:

  •   1. Carter CS. Neuroendocrine perspectives on social attachment and love.  Psychoneuroendocrinology 1998;23:779-818.

  • 2. Enzo Emanuele et al: Raised Plasma nerve growth factor levels associated with early-stage romantic love. Psychoneuroendocrinology (2006) 31, 288-294  

  • 3. Komisaruk BR, Whipple B. Love as sensory stimulation: physiological

  •              consequences of its deprivation and expression. Psychoneuroendocrinology

  •             1998; 23:927–44.

  • 4. Esch T, Stefano GB. The neurobiology of pleasure, reward processes, addiction and their health implications. Neuro endocrinol ogy Letters 2004; 25:235–51.

  • 5. Tobias Esch & George B. Stefano: The Neurobiology of Love. Neuroenciocrinology Letters No.3 June Vol.26, 2005

  • 6. Darwin, C. 1871/n.d. The des cent of man and selection in relation to sex. New York, NY: The Modern Library/ Random House.

  • 7. Helen E. Fisher, Arthur Aron and Lucy L. Brown. Romantic love: a mammalian brain system for mate choice. Phil Trans. R. Soc. B (2006) 361, 2173-2186

  • 8. Andersson, M. 1994 Sexual selection. Princeton, NJ: Prince¬ton University Press.

  • 9. Gladikas, B. M. 1995 Reflections of Eden: my years with the Orangutans of Borneo. New York, NY: Little Brown and Company.

  • 10. Reite M, Boccia ML. Physiological aspects of adult attachment. In: Sperling MB, Bermann WH, editors. Attachment in Adults. New York: Guilford Press; 1994

  • 11. Esch T, Stefano GB, Fricchione GL, Benson H. The role of stress in neurodegenerative diseases and mental disorders. Neuroendocrinology Letters 2002; 2:199–208.

  • 12. Eibl K. Adaptationen im Lustmodus: Ein uebersehener Evolutionsfaktor. In: Zymner R, Engel M, editors. Anthropologie deriteratur. Poetogene Strukturen und aesthetisch-soziale Handlungsfelder. Paderborn: Mentis; 2003

  • 13. Esch T, Stefano GB. The neurobiology of pleasure, reward processes, addiction and their health implications. Neuroendocrinology Letters 2004; 25:235-51.

  • 14. Esch T, Stefano GB. The Neurobiology of Love. Neuro endocrinology Letters 2005; In press

  • 15. Stefano GB, Goumon Y, Casares F, Cadet P, Fricchione GL, Rialas C et al. Endogenous morphine. Trends in Neurosciences 2000; 9:436–42

  • 16. Davidson RJ, Kabat-Zinn J, Schumacher J, Rosenkranz M, Muller D, Santorelli SF et al. Alterations in brain and immune function produced by mindfulness meditation. Psychosom Med 2003; 65: 564–70.

  • 17. Bartels A, Zeki S. The neural correlates of maternal and romantic love. Neuroimage 2004; 21:1155–66.

  • 18. Edwards, J. N. & Booth, A. 1994 Sexuality, marriage, and well-being: the middle years. In Sexuality across the life course (ed. A. S. Rossi). Chicago, IL: University of Chicago Press.

  • 19. Van Goozen, S., Wiegant, V. M., Endert, E., Helmond, F. A. & Van de Poll, N. E. 1997 Psychoendocrinological assessment of the menstrual cycle: the relationship between hormones, sexuality, and mood. Arch. Sex. Behav. 26, 359-382.

  • 20. Psychol Rev. 2003 Jan;110(1):173-92.

  • 21. Aron, A. & Aron, E. N. 1991 Love and sexuality. In Sexuality in close relationships (ed. K. McKinney & S. Sprecher), pp. 25—48. Hillsdale, NJ: Lawrence Erlbaum.

  • 22. Fisher, H. 1998 Lust, attraction, and attachment in mammalian reproduction. Human Nature 9, 23-52.

  • 23. Tennov, D., 1979. Love and Limerance: The Experience of Being in Love in New York. Stein and Day, New York.

  • 24. Carter CS. Oxytocin and sexual behavior. Neurosci Biobehav Rev 1992; 16:131–44.

  • 25. Shostak, M. 1981 Nisa: the life and words of a .'Kung woman. Cambridge, MA: Harvard University Press.)

  • 26. Bell, J. 1995 Notions of love and romance among the Taita of Kenya. In Romantic passion: a universal experience? (ed. W. Jankowiak). New York, NY: Columbia University Press.).

bottom of page