top of page

لقد أنهيت في الحلقة السابقة ما أردت شرحه وتفسيره من أشعار السياب عن صراعه المرير مع المرض ومعاناته. ولقد فرضتْ علي أشعاره ذكرَ بعض الحوادث السياسية والاجتماعية في حياته، فذكرتها باقتضاب. أما المعاناة المرضية فاسترسلت في ذكرها بإسهاب. وقصيدته الأخيرة المؤثرة (إقبال والليل) التي كتبها قبل أن يلفظ أنفاسه، جعلتني أحس وكأني أراه يبكي وحيداً متغرباً، في ليلة ظلماء، في المستشفى الأميري في الكويت. كان يناجي وطنه وزوجته وأطفاله في العراق في حسرة وشوق. فأثارت تلك القصيدة في نفسي الشجون، وتفاعلت مشاعري مع مشاعر الشاعر الحزينة، فعبرت عنها شعراً أكتبه له. وكأني به يسمع شعري الذي امتزجت فيه مواساتي له بالرثاء والعزاء.  فأفردت القصيدة في حلقة خاصة كخاتمة لحلقاتي السابقة عن (معاناة الداء والعذاب في أشعار السياب). وبعد التمعن في القصيدة وجدتها تلخيصاً شعرياً لما ذكرته نثراً في الحلقات السابقة. أي أن ما اختزن في ذاكرتي عن السياب، بعد دراستي لأشعاره، أبى إلا أن يظهر في هذه القصيدة.

أيا  بدرَ  العـراقِ   لكم    دعـائي        بجنـاتٍ    ورضـوانِ    السماءِ

أيا  بدرُ  بنُ  شاكرَ   مـا   نسينا        صدى السيابِ في شعرِ العَناءِ

أبا غيـلان   إني   قمـتُ    أشدو        بأشـعارٍ   تميلُ   إلـى   الرثاءِ

سأشرحُ  داءَكم  في   مـا   كتبتم         من الأشعارِ في وصفِ البَلاءِ

فقد   عــانيتمُ     داءً     عصـيباً         كأيـوبٍ  يعاني   شـرَّ  داءِ (1)

أبا  غيـلانَ   يـا    بدراً    تجلّى         بأشـعارٍ    وأنـغامِ      البُـكاءِ

قضيتُ  الشهرَ أقرأُ  ما    كـتبتمْ         عن الآلامِ  أو خوفِ  القضاءِ

وكم  حاولتَ  أن  تحظى  بحـبٍّ         ولكن لا  حظوظَ  مع  النِّساءِ

وكم  ردَّدتَ  تشـكو  من   كُساحٍ         بأشـعارٍ   أرقَّ   من   الهـواءِ

كُسـاحُك  لا علاجَ    له   بطـبٍ         وحتى اليومِ  فـهو  بلا   دواءِ

قرأتُ  قصيدَكم    فبكيتُ   حـزناً         وقد  عانـيتَ   آلامَ    البَــلاءِ

فآخِرُ ما  كتبتَ   أسـالَ   دمـعي         بـ (إقبالٍ)   ترددُ  في  النداءِ  (2)

تحنُّ  إلى  العراقِ   وفـيك   وهنٌ        عليلاً  تائقاً    لهوًى    ومــاءِ

(أحسُّك في الكويتِ) تصيحُ حزناً         تحـنُّ إلى الديـارِ، إلى اللقاءِ (3)

وقد شاهدتُ  في الأشعار   بـدراً          نحيفاً  في  فراشٍ  كالـرشاءِ (4)

أذابَ  الداءُ    أعصـاباً   ولحــماً         كذوبِ الملحِ  في قعـرِ الإناءِ(5)

فما  أبقى   سـوى   جـلدٍ   وعظمٍ        وعينٍ  برَّقت نحـوَ  السـماءِ (6)

وقلبٍ  لا  عناءَ    لـهُ     بجـسمٍ        هزيـلٍ  هدَّهُ  طـولُ  العـناءِ (7)

وترجفُ  ساقُه    رجفاً     خـفيفاً        فيبدو الرّجفٌ في  خفْقِ الرِّداءِ

وقد  أدركتُ   أنَّا   مـا    التقيـــنا        ولكني  شهدتُ    بلا    لقــاءِ

فكم  قاسى   أبو  غـيلانَ   حتى        تمنّى الموتَ  منبتّ  الرجـاءِ (8)

وقد  فَقَدَ    الحـنانَ    بدونَ   أمٍّ         صغيراً  والكروبُ   بلا جـلاءِ

فكان  الفقـرُ  أهونَ   ما   يُعاني        ويُلصِقَه الثَّـرى بعدُ   الثَّـراءِ (9)

وأبلاه    الإلـهُ    بخـطـبِ    داءٍ        عسيرٍ  لا   يعالَـجُ     بالـدواءِ

وصار الداءُ   يوغِل ُ  في   قواهُ         ويجعلُ شِعرهُ   شِعرَ   الشَّـقاءِ

وصار الموتُ  هاجسَ  كلِّ  يـومٍ         فيدعـو اللهَ  تعجـيلَ القضاءِ (10)

إذا  عصفتْ  بـه  الحُمّى   كنارٍ         تُعاودُ في النهارِ  وفي المساءِ

تشط به،  فيهـذي   فـي     نشـيدٍ        ويُفقِدُ  عقلَه   بعضُ   الصفاءِ

فأعذُلُ  ثم   أعذُرُ   مـنه    قـولاً         يفَّسرُ   بالجحـودِ    وبالجَـفاءِ

فَداءُ  اليأسِ   أسوأُ   ما   يـلاقي        عليلٌ  لا يرى   نـورَ   الشفاءِ

فلا  جـرمٌ   عليهِ   إذا    تمـادى         مريضٌ  يشتكي  قُـربَ  الفناءِ

فيطـلق  صرخةً   حيرى   بحــزنٍ         وقد حامَ  الرَّدى  حولَ الرِّداءِ

إلهَ  الكونِ  عفوكَ   إن   تمـادى        فمنك  العـفو  يا  ربَّ  السماءِ

الشرح:

  1. أيوب: إشارة إلى قصيدته (سفر أيوب).

  2. إقبال: إشارة إلى قوله في قصيدته (إقبال والليل): إقبال مدّي لي يديك ..

  3. (أُحسُّك في الكويت): إشارة إلى قوله في قصيدته (إقبال والليل):

        يا ليل ضمَّخكَ العراقْ

             بعبير تُربتهِ وهدأةِ مائهِ بين النخيلِ

             إني أُحسُّك في الكويت وأنت تَثقُل بالأغاني والهديلِ

  1. الرشاء: الحبل.

  2. إشارة إلى قوله في قصيدته (سفر أيوب 9):

                 أحال ظهري عمود ملحٍ..

  1. برّق: أحدَّ النظر.

  2. أي أن جسمه أصبح هزيلاً لا يشق على القلب تغذيته بالدم.

  3. منبت: منقطع.

  4. أي أن الفقر المدقع ألصقه بالتراب.

  5.  إشارة إلى قوله في قصيدته (في غابة الظلام):

                    هاتِ الردى، أريد أن أنام...

                   ... رصاصة الرحمة يا إله!.

bottom of page