ذكرت في الحلقة السابقة أن بدراً ارتد عن الشيوعية وكفر بها، بعد أن أدرك أنها لن توصله إلى الجنة والنعيم في الدنيا كما وعده الشيوعيون وعاد إلى الدين وتحول من شاعر شيوعي إلى شاعر متعبد فبمناسبة ليلة القدر قال:
يا ليلة ً تفضلُ الأعوام والحِقبا هيجت للقلب ذكرى فاغتدى لهبا
يا ليلة القدر يا ظلاً نلوذ به إن مسنا جاحم الرمضاء ملتهبا
يا ليلة القدر أعلى قدر أمتنا شهم تعالى على الشطين وانتصبا
يا ليلة القدر يا نوراً أضاء لنا قاع السماء فأبصرنا مدى عجبا
تنزل الروح رفافاً بأجنحةٍ بيضٍ على الكون أرخاهنّ أو سحبا
عطف الأمومة في عينيه متقد وإن يكن للتقاة المحسنين أبا
وللملائك تسبيح وزغردة تكاد رنّاتها أن تُــذهِلَ الشهبا (10)
وبمناسبة المولد النبوي مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يمدحه المتصوفون:
نبيَ الهدى يا نفحةَ الله للورى ويا خير ما جاد الزمان المقتر
إذا ما افتخرنا كنت للفخر أولا وإن جاءنا نصر فذكراك تنصر
وكم سار في شرق من العرب جحفلٌ بقرآنك الهادي وفي الغرب عسكر
ويا مـولد المختار ميلاد أمة وميلاد بعث أنت فيــها مقدّر
نبي الهدى عذراً إذا الشعر خانني ولكنّه قلبــي بما فيه يقطر
نبي الهدى كن لي لدى الله شافعاً فإني لكــل الناس عان محير
تمرست بالآثام حتى تهـدمت ضلوعي وحتى جنتي ليس تُثمِر
ولكن من ينجده طه فقد نجا ومن يهده – والله – هيهات يخسر (10)
كان بدر شاكر السياب رحمه الله، متعطشاً للحب، محروماً من النساء، فقيراً بائساً تائهاً متأرجحاً متقلباً متذبذب الفكر والعقيدة، فكان - كما قلت في حلقة سابقة- كالقارب التائه في خضم البحر، لم يصل إلى بر الأمان الذي كان ينشده، فطلب من الله أمان الموت قائلا:
كأنني ممثل من عالم الردى
تصطاده الأقدار من دجاه.
منطرحاً أصيح أنهش الحجار:
أريد أن أموت يا إله! (11)
ولكنه حتى أمان الموت لم يدركه بسهولة ويسر. فقد قاسى جسده من المشاكل الصحية الجسيمة التي لمّا يئن الأوان لي للتطرق إلى تفاصيلها. ولكن لا بد لي من الحديث عن مشاكل صحته النفسية أولاً.
عقدته النفسية:
دخل بدر فترة المراهقة وهو فاقد حنان الأم والأب، فمال إلى الفتيات، لا كما يميل أي شاب مراهق فحسب، ولكنه كان يبحث أيضاً عما يعوضه عن عطف الأم وحنانها بين النساء. فكان يحلم بتبادل الحب مع كل فتاة تبتسم له ولكنه كان يشعر بعقدة نفسية تحول بينه وبين النجاح في خلق علاقات غرامية، لشعوره بقبح شكله. ولم يكن ذلك الشعور مبنياً على الوهم، ولكنه كان كذلك في الواقع، فقد كان قبيح الشكل فعلاً.
وقد نقل عيسى بلاطة عن رسالة من مصطفى السياب وصفاً لبدر:
"كان بدر يزداد شعوراً بقبح منظره وهو يمر بمرحلة المراهقة، فقد كان ضئيلاً، قصير القامة، ضعيف البنية، أسمر البشرة ذا شعر كثيف أسود فاحم. وكانت أذناه كبيرتين وبارزتين كأنهما يدا إبريق. وكانت جبهته الضيقة تساعد على جعل وجهه الناحل يبدو قاصر النمو. ولم يكن فمه العريض يخفي أسنانه الناتئة قليلاً، فقد كانت تسيطر على أدنى افترار لشفتيه. وكانت ذقنه الصغيرة الحادة تحت أنفه الطويل تبدو مثل نقطة تحت علامة التعجب! إنه لم يكن وسيماً" (8).
ووصفه إحسان عباس وصفاً أبشعَ حيث قال: "غلام ضاو نحيل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدير كأنه حبة الحنظل على عنق دقيق تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدب متدرج أنف كبير يصرفك عن تأمله، أو تأمل العينين الصغيرتين على جانبيه، له فم واسع تبرز الضبة العليا وفوقها الشفة بروزاً يجعل انطباق الشفتين فوق صفي الأسنان كأنه عمل اقتساري، وتنظر مرة أخرى إلى الوجه الحنطي، فتدرك أن هناك اضطراباً في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه علامة استفهام مبتورة وبين الوجنتين الناتئتين كأنهما بدايتان لعلامتي استفهام أخريين قد انزلقتا من موضعيهما الطبيعيين".(12).
وكان السياب يصارح صديقه وزميله في الصف سليمان العيسى "إنه مقضيّاً عليه بالفشل والإخفاق في الحب بسبب دمامة وجهه" (8).
ومع أن الإنسان يتجنب الحديث عن عقدته النفسية إلا أن بدراً وجد لها مخرجاً لا يؤلمه، فحولها من شكوى النفس إلى شكوى على لسان شاعر خيالي (شاعر الروح) يصف عاهاته، ولكن الواقع أن بدراً يعبر عما في نفسه حين قال (بين الروح والجسد):
واهي الكيان كأن خطباً هَدّهُ ذاوي الشفاه لطولِ ما يتنهدُ
وهو المعطَّلُ من قوامٍ فارعٍ يسبي العيونَ ووجنةٍ تتوردُ
كم بات يلتمس الحنان فما رأى طيف الحنان وفاتَه ما ينـشد
أما عن شحوب لونه الذي كان بسبب فقر دمه فقد اعترف به، ولكنه عزاه إلى الحب:
أمن حبِّها جاء هذا الشحوبُ وطول اصطحاب الأسى والنواح(5)
ولكنه لم ينجح في الوصول إلى قلب أية فتاة لقبح شكله، فقال:
كمجنونٌ يهيم بألف ليلى فلا وصلا ينال ولا اقترابا
ولأنه كان يبحث بين النساء عمن يعوضه عن حنان الأم، تعلق مرة بفتاة اسمها لبيبة تكبره بسبع سنوات، ولكنها لم تمِل إليه فقال:
وهل تسمع الشــعر إن قلته وفي مسمعيها ضجيج السنين
أطلت على السبع من قبل عشريـ ن عاماً وما كنت إلا جنين (13)
كان مفرطاً في البحث عن امرأة تبادله الحب، فقد يقع في حب فتاة في الطريق، لا تعرفه ولا يعرفها، فيحبها لأنها ابتسمت أو لأن شعرة من شعرها لامسته وهي مارة في طريقها، كما ذكر في قصيدة "لا مس شعرها شعري":
مرت فلامس شعرُها شعري فإذا الهوى بجوانحي يسري
ياليتَ شعـرينا إذا اعتنقا عُقدا فما انفرطا مدى الدهر
بل ليت مُسرعة الخطى وقفتْ ووقفت حتىساعةِ الحشر
أدعوك، واسمك لست أعرفه دعوات حُرٍّ ضاق بالأسر (4)
وأخيراً وصل إلى استنتاج:
هنَّ الغواني همُّهُنَ من الهوى أن يستفدن لذاذة أو مكسبا
لا أن يهيمَ بهــن غِرٌّ شاعرٌ يرنو فيرجعُ باكياً ومشبِبا (4)
وكتب مرة لصاحبه الشاعر خالد الشواف:
ماذا جنيت من الزما ن سوى الكآبة والنحول
وأعيش محروم الفؤا د من الهوى عيش الذليل
وبعد أن فشلت كل محاولاته للفوز بقلب امرأة، ثار على النساء كافة، ونفّس عما يجيش في قلبه من القهر والغضب والرغبة في الثأر والانتقام من النساء في قصيدة (ثورة على حواء):
إني عــدوكِ يـا مُغَرَّرَةً سكرتْ بخمرةِ شرِّها الأمم
ما فيــكِ إلا كـلُّ مثْلَبةٍ ما فيك إلا الحزنُ والندمُ
حطمتِ قلبي في الهوى سَفَهاً فمتى وأين ، وكيف أنتقم؟
وأشكُّ بالعذراء تظــهرُ لي عذراء ما علقت بها التهم
وأقول: وجـه البدر مؤتلق ولقد تُجلْلُ ظهرَهُ الظُّلَمُ
يا مَنْ غُرِرتُ بحـبها زمناً اليوم أعقب حُبك ِ الندم
قد كنت أجهل أن من لـبست طهر الهوى بالعهر تتسمُ
حتى غدوت وما أرى امرأةً إلا ونار الحقد تضطرم
لي عند كل جمـيلة تِرَةٌ فمتى وأين، وكيف أنتقم؟ (4)
ولكنه بعد أربعة أيام، ندم على ما صرح به، وخاف أن يفقده ذلك عطف النساء في المستقبل، فاعترف أن غضبه ناتج عن شعوره بالحرمان من النساء حيث قال:
لا لومَ فالحرمان أنطقني ومحا خساسةَ قولي الندم
وعاد إلى إغراء النساء بشعره ونسيبه ، ووعد بأنه لو أحبته امرأة لخلدها بالشعر:
إن تخلصي لي بتِّ خالدةً في الشعر، هاتفةً بك الأمم
ولكنه لم يبلغ تلك الغاية فلا عجب أنه أحس بالرفض والحرمان وظهرت عليه أعراض نفسية وجسدية أخرى سنستعرضها في الحلقة القادمة إن شاء الله.
المراجع:
-
بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره: إحسان عباس (1983).
-
إقبال: بدر شاكر السياب.
-
رسائل السياب: ماجد السمرائي.
-
قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
-
البواكير: بدر شاكر السياب.
-
أعاصير: بدر شاكر السياب.
-
منزل الأقنان: بدر شاكر السياب.
-
بدر شاكر السياب حياته وشعره: عيسى بلاطة (1987).
-
قيثارة الريح: بدر شاكر السياب.
-
الهدايا: بدر شاكر السياب.
-
المعبد الغريق: بدر شاكر السياب.
-
. إيليا حاوي: بدر شاكر السياب ج1 ص19
-
. أزهار وأساطير.