إيليا أبو ماضي
إيليا أبو ماضي الشاعر العربي الكبير الذي كانت لأشعاره في المهجر الصدارة، وأقر له بعض شعرائنا هناك بالإمارة، لم يعمّر كثيرًا بعد أن مزقت قلبه السيجارة، فأسكتت أنغام أوتاره. قرأت أشعاره وأنا صبي، وحفظت بعضها عن ظهر قلب، وحملت دواوينه معي أثناء دراستي الطويلة، في نفس البلد الذي هاجر إليه وقضى فيه معظم حياته، وهو الولايات المتحدة الأمريكية. وكم كنت أتمثل بقوله عن رأي الأغلبية في أمور تجهلها:
لما سألتُ عن الحقيقةِ قيلَ لي الحقُّ ما اتَّفقَ السوادُ عليهِ
فعجبتُ كيف ذبحتُ ثوري في الضحى والهندُ ساجدةٌ هناكَ لديهِ
لم أكن أعرف شيئًا عن حياته آنذاك، ولم أسمع عن إدمانه النيكوتين اللعين إلا حديثًا بعد أن قرأت سيرته وتمعنت في مسيرته.
سأتطرق في هذا المقال إلى ما كان من بعض أخباره وآثاره لمعرفة أسباب إدمانه التدخين في سن مبكرة من عمره، كما سأتطرق إلى بعض أشعاره التي تدل على شخصيته وأفكاره. فهذا المقال ليس سردًا لسيرة إيليا أبو ماضي، ولا دراسة أدبية أو نقدية لأشعاره، ولكنه فحص طبي لسيرته وأشعاره، وعلاقتهما بمرضه الأول، وهو إدمان النيكوتين وما نتج عن ذلك الإدمان من عواقب على صحته. وسأنتهج في هذا المقال أسلوبًا قريبًا من أسلوبي في كتابيَّ السابقين عن مجنون ليلى(1) وبدر شاكر السياب(2).
نشأته:
شاعرنا هذا هو إيليا ضاهر إيليا طانيوس أبو ماضي. ولد – حسب أغلب الروايات - سنة 1891 في قرية المحيدثة اللبنانية الجبلية الفقيرة، لعائلة فقيرة لا تكاد تكسب قوت يومها (3). فوالده كان ضيق اليد فقيرًا غير قادر على إعالة أسرته البالغة ثمانية أفراد، وهم خمسة أبناء: مراد وإيليا ومتري وطانيوس وإبراهيم وبنت واحدة أوجيني، بالإضافة إلى الأم سلمى (4). كانت تلك البيئة القروية الفقيرة سببًا مباشرًا لما آلت إليه حياته من إدمان وهجرة ومتاعب أثرت في مجرى حياته وصحته. فبسبب فقر عائلته لم يحصل في قريته إلا على بعض الدروس الابتدائية البسيطة من مدرسة القرية التي التحق بها وهو في الخامسة من العمر. وهذا ما حدا به إلى أن يسير على قدميه مسافة ميلين كل يوم، وهو في السابعة من عمره، ليسترق السمع من نافذة مدرسة كان يديرها الشيخ إبراهيم المنذر. وحين لاحظ صاحب المدرسة شدة رغبة أبو ماضي في نهل العلم، دعاه إلى دخول المدرسة والانتظام في صفوفها من غير مقابل (3). وفي الثامنة من العمر أدخل المدرسة اليسوعية.
هجرته إلى مصر وبداية التدخين:
إن الفقر الشديد أرغم والد الشاعر على السماح لأولاده وتشجيعهم، الواحد تلو الآخر، على الهجرة بعيدًا عن الدار إلى مصر وأمريكا. فأَخرج شاعرنا إيليا وهو في الحادية عشرة من العمر من المدرسة الابتدائية وأرسله في تلك السن المبكرة للعمل في دكان تبغ لخاله في الإسكندرية بمصر، بناء على طلب الخال قبلان إسكندر الذي كان في حاجة إلى من يساعده براتب زهيد. ولكن الشاعر كان يلوم خاله فيقول: "لقد دعاني خالي صاحب محل الدخان في الإسكندرية وسلخني من المدرسة في عمر مبكر جدًّا لا يزيد على الإحدى عشرة سنة" (5). وبعد أن عمل بائعًا للتبغ في دكان خاله لمدة سنتين، فتح شقيقه الأكبر مراد دكانًا خاصًّا به في الإسكندرية لبيع التبغ، فانتقل إلى العمل في دكان أخيه لمدة سنة ونصف، ثم عاد للعمل في دكان خاله بعد ما أقفل أخوه دكانه عائدًا إلى لبنان (5).
كان إيليا يحضِّر السجاير في الدكان بلف التبغ بورق رقيق بيديه، ولم تكن هناك مصانع للسجاير في المنطقة آنذاك. وآلة لف التبغ ما اخترعت للمصانع إلا في سنة 1881م. فماذا كان يفعل صبي صغير مشرف على المراهقة في دكان خشبي صغير - وحيدًا أحيانًا – يلف التبغ بالورق ويبيعه، سوى التسلية بالتدخين؟ وأكاد أجزم بما لدي من خبرة وعلم ومعرفة بآثار التدخين في الصحة، أن إيليا أبو ماضي قد أدمن النيكوتين وهو في الحادية عشرة من عمره لما بدأ يبيع السجاير في مصر. ولا شك أنه في تلك الأيام (سنة 1902) لم يكن المجتمع على وعي ودراية حقيقية بأضرار التدخين على الصحة. والتبغ أصلاً لم يكن معروفًا في مصر إلا في القرن السابع عشر إذ دخل مصر عن طريق تركيا.
ولا بد لي أن أتحول قليلاً عن حياة شاعرنا للتعليق على تدخين الأطفال في مثل عمره آنذاك. ففي دراسة علمية تمت في كلية الطب لجامعة ماستجوسس الأمريكية على 1,246 طفلًا لم يتعدَ الثانية عشرة من العمر تبين أن بعض الأطفال لم يتمكن من الإقلاع عن التدخين بعد تدخين عدد قليل من السجاير. كما تبين للدارسين أن هناك أطفالاً أدمنوا النيكوتين بعد تدخين سيجارة واحدة فقط (6). فإدمان النيكوتين مثل إدمان الكوكائين، ينشأ بسرعة ويأسر ويسيطر على المتعاطي بقوة فيصعب التخلص منه. ولقد عرفت شخصيات قيادية، أدمنت التدخين واقتنعت بأضراره، ولكنها عجزت عن الإقلاع عنه إلا بعد كرٍّ وفرّ استغرقا سنوات من المحاولات الفاشلة. وقد يكون الرئيس الأمريكي باراك أوباما أشهر المدخنين صراعًا مع التدخين هذه الأيام. فأوباما الذي يتمتع بالقوة والعزيمة الكافية للطموح إلى رئاسة الولايات المتحدة، أراد أن يثبت للناخبين أنه يملك تلك القوة والعزيمة بالإقلاع عن التدخين. فمنذ سنة 2006 وهو يحاول الإقلاع، مستعينًا ببدائل النيكوتين، ولم يفلح في الإقلاع خلال خمس سنوات من الجهد والاجتهاد. وأخيرًا أعلن طبيبه في أكتوبر سنة 2011 أن جهود الرئيس أوباما – الذي يستعد لانتخابات الرئاسة للفترة الثانية - قد نجحت أخيرًا في التخلص من إدمان التدخين.
فالخواص الكيميائية للنيكوتين - مادة الإدمان في دخان السجاير- تجعلها قادرة على الوصول إلى مخ المدخن بسرعة فائقة. فالمدة من بداية استنشاق دخان السيجارة ومروره في القصبة الهوائية إلى حويصلات الرئة، ودخول النيكوتين من الرئة في الدم إلى وصوله إلى المخ، لا تزيد على سبع ثوان فقط. ومن المعروف أنه كلما بدأ الشخص التدخين في سن مبكرة ازدادت صعوبة الإقلاع عنه فيما بعد. والتدخين في سن مبكرة يجلب الأمراض في سن مبكرة أيضًا. فسجل المرضى المصابين بالجلطة القلبية في قطر منذ سنة 1991 حتى هذه السنة 2011 - وهو تحت إشرافي الشخصي- قد بيّن أن الجلطة القلبية تصيب المدخنين في سن تقل عن سن غير المدخنين بعشر سنوات.
ولقد أشرفت مرة على علاج عامل هندي، أدخل وحدة الإنعاش في مستشفى حمد في قطر، بعد إصابته بجلطة قلبية وهو في الخامسة والعشرين من العمر. وكان الغريب في تاريخه، أن أبويه علّماه التدخين وهو في الخامسة من العمر لأسباب خرافية، فأدمن وهو طفل صغير في سن البراءة نيكوتين السيجارة التي أتلفت قلبه لما بلغ ريعان الشباب، وجلبت عليه المصائب والعذاب.
فلنعد الآن إلى شاعرنا أبو ماضي الذي كان يتلهف إلى التعليم فلم يوفق في تكملة تعليمه بعد المرحلة الابتدائية، بسبب الفاقة والفقر. ولكنه قرر أن يعلم نفسه بنفسه أي بدون معلم، كما فعل عباس محمود العقاد، فاقتنى بعض الكتب بما كسبه من بيع التبغ، والتزم القراءة والدراسة اللغوية والأدبية، وعكف مساءً ينهل من دواوين الشعر العربي، وسيجارته في فمه، حتى تمكن من نظم الأشعار. ويقال إنه حفظ ديوان المتنبي كله عن ظهر قلب، وقيل إنه حفظه لاحقًا في المهجر (5). وقد قال عن حرمانه من المدرسة للعمل في بيع التبغ: "غير أني لم أستسلم للقنوط، وشعرت بدافع يحدوني للمطالعة والدرس فكنت أسهر الليل دارسًا منقبًا في ضوء الشموع. وانصرفت بعد أن مكنت نفسي من قواعد العربية إلى معالجة الشعر ونظمه في هذه الليالي" (5) - (نقلاً عن جريدة السمير- التي أسسها الشاعر في المهجر- السبت 11 أيار 1940).
وتشاء الظروف أن يلتقي أبو ماضي مصادفة بأنطون الجميّل في دكان عمه في مصر. وكان أنطون قدأنشأ مع أمين تقي الدين مجلة "الزهور" فأعجب بذكاء إيليا فدعاهإلى الكتابة بالمجلة. وكانت أولى قصائده التي نُشرت في تلك المجلة تروي قصة فتاة صغيرة زوّجها أهلها قسرًا من رجل كبير السن، فعاشت معه حياة شقية بائسة وقضت حياتها سجينة التقاليد لا تستطيع منه فكاكًا، وقد جاء في قصيدته:
إنّما الغُصْنُ إذا هَبَّ الهَوا مالَ لِلأغْصانِ لا للحَطَبِ
ثم توالى نشرأعماله، إلى أن جمع بواكير شعره في ديوان أطلق عليه "تذكار الماضي" وقد صدرفي عام 1911م عن المطبعة المصرية، وكان أبو ماضي إذ ذاك لم يتجاوز العقد الثاني من العمر.
وهناك ما يدل على أنه نظم الشعر وأجاد فيه وهو في الثانية عشرة من العمر مما يدل على عبقرية مبكرة. فقصيدته (مصر والشام) المطبوعة في ديوانه الأول المذكور أعلاه، قال فيها:
مضى عامٌ عليَّ بأرض ِمصرٍ وذا عامٌ وسوف يجيءُ عامُ
وما مصرُ التي ملكت فؤادي ولكنْ أهلُها قومٌ كرامُ
وليس من المستغرب أن تقع بعض الهفوات اللغوية والنحوية والعروضية في بعض أشعاره، لأنه لم يتعلم تلك الفنون من معلم ماهر، ولكنه اعتمد على جهده الشخصي في التحصيل. لذلك لم يرحمه النقاد واللغويون من النقد الجارح، ولقد انتقده الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء نقدًا قاسيًا جدًّا وهو يتحدث عن ديوانه الجداول قائلاً: "أما إذا قصدنا نقد الديوان من جهة ألفاظه وأوزانه فنحن بعيدون كل البعد عن مثل هذا الرضا،... سنلاحظ في الوقت نفسه شيئًا من فساد النحو عند الشاعر يغنينا عن أن نضرب لك الأمثال مما في الديوان (الجداول) من خطأ لا يحتمل من شاعر مجيد..". ثم يتابع قوله: "ومصدر هذا كله أن الشاعر لا يحسن علم الألفاظ والأوزان، وهو يريد مع ذلك أن يقول الشعر..."(7).
ولكن الشاعر رد على اللغويين بهجاء لم ينشره في دواوينه، وظهر حديثًا في الأعمال المجهولة للشاعر التي أصدرتها مؤسسة (البابطين):
تبَّ النحاةُ وتبَّ المؤمنون بهم أهلُ السخافات والتضليل والكذبِ
النحوُ والصرفُ والإعرابُ أجمعها سفاسفٌ لم تكن من قبلُ في العربِ
هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية:
اتجه أبو ماضي إلى نظم الشعر في الموضوعات الوطنيةوالسياسية في الوقت الذي كانت فيه مصر ترزحُ تحت وطأة الاستعمار البريطاني. فشعره السياسي والوطني جعله عرضةً لمضايقات السلطة الرسمية. وانتشر رثاؤه لمصطفى كامل رئيس الحزب الوطنيمما جلب له المتاعب وأودع السجن لمدة أسبوع. وحين اشتدت ملاحقات السلطات البريطانية المحتلة وإرهابها الفكري لدعاة الاستقلال والحرية، الذين اجتذبوا الشاعر إلى دعوتهم لقصائده النارية التي كان يلقيها في المجامع والمنتديات الوطنية المصرية، لم يسلم من مطاردة السلطات له. عندها خشي عليه والده من مغبة تدخله في السياسة، فأرسل إلى ابنه مراد الذي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يطلب منه إقناع أخيه بمغادرة مصر والهجرة إلى أمريكا. فلبى الشاعر رغبة والده وهاجر إلى أمريكا مارًّا بلبنان سنة 1912. ولم تكن المشاكل السياسية هي السبب الوحيد في هجره لمصر ولكن كانت هناك أسباب أخرى مثل عدم نجاحه في التجارة في مصر، بالإضافة إلى أن نقد النقاد اللغويين والعروضيين لأشعاره وقسوتهم وتجريحهم له، ضايقه كثيرًا وجعله يستحسن الهجرة إلى أمريكا حيث هاجر الكثيرون من اللبنانيين.
أما هو فيقول عن سبب هجرته وتغربه عن لبنان وطنه (8):
أرضَ آبائنا عليكِ سلامٌ وسقى اللهُ أنفسَ الآباءِ
ما هجرناكِ إذ هجرناكِ طوعًـا لا تظنّي العقوقَ في الأبنـاءِ
شردت أهـلكِ النوائبُ في الأر ضِ وكانوا كأنــجم الـجوزاءِ
وإذا المرءُ ضاق بالعيشٍ ذرعًا ركب الموتَ في سبيلِ البقاءِ
وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي وصلها بحرًا، استقر أولاً في مدينة "سنسناتي" بولاية أوهايو حيث أقام فيها مدة أربع سنوات، عملفيها بالتجارة مع أخيه مراد، ثم رحل إلى نيويورك سنة 1916 حيث التقى بجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهما من الأدباء المهاجرين. وأسسوا في "بروكلين" الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم تفرغ الشاعر للصحافة والشعر والأدب. فعمل في البداية نائباً لتحرير جريدة "مرآة الغرب" وتزوج من ابنة مالكها السيدة دورا نجيب دياب وأنجبت له ثلاثة أولاد.
فالشاعر قد رحل إلى أمريكا وهو في الحادية والعشرين من العمر. ويبدو أنه لم يكن سعيدًا في أمريكا تلك الأيام بعيدًا عن الأهل والوطن لأنه قال:
نأى عن أرضِ مصرَ حذارَ ضيمٍ ففرَّ من العذابِ إلى العذابِ
ولقد كتب شاعرنا للناس وصفة حكيمة لعلاج الهموم، ولا أدري إذا كان قد استفاد منها هو أم لا. فوصفته تقول:
وإذا ما أظلَّ رأسكَ همٌّ قصّرِ البحثَ فيه كيلا يطولا
مع أنه كان قد أحس بسعادة الحرية حين وصل ورأى تمثال الحرية فقال: (8)
أصبحت حيث النفس لا تخشى أذىً أبدًا وحيث الفكر يغدو مطلقا
نفسي اخلدي ودعي الحنينَ فإنما جهلٌ بُعيدَ اليومِ أن نتشوّقا
فالشعور بأنك تستطيع أن تعبر عن رأيك بحرية تامة بلا خوف من رقيب أو حسيب، شعور جميل. ولقد شعرت بمثل ذلك سنة 1969م وأنا طالب في الولايات المتحدة، فقلت في قصيدتي (حنين إلى الخليج):
أسيرٌ لأنـّـي فــي بــلادٍ غريبةٍ وإن كنتُ في شِعري على أرضِهم حُرَّا
أقولُ ولا أخــشى سُيــوفاً صَقيلةً إذا لاحَ بدرُ الـتمِّ: إنــي أرى البَدرا
تدخين أبو ماضي وأمراضه:
الشاعر إيليا أبو ماضي الذي أدمن التدخين منذ الطفولة والصبا كما ذكرت أعلاه، لم يستطع أن يتخلص منه حتى بدأ يحس بأضراره لما كبر. كان يدخن بشراهة قاتلة. وكان مجالسوه والعاملون معه مدخنين مثله. وقد وصف لنا هنري مراد عامل مطبعة كان يعمل مع إيليا أبو ماضي في طباعة المجلة التي أسسها الشاعر سنة 1929م وسماها "السمير" وذلك في مقابلة على قناة الجزيرة الفضائية إذ قال:"عندما كنت أدخل إلى مكتب أبو ماضي أجده مليئًا بدخان السجائر فقد كان أبو ماضي يدخن، وكان توفيق فخر لا يتوقف عن التدخين، ويولع سيجارة جديدة بسيجارة منقضية بين شفتيه، وكانت المنفضة تفيض ببقايا السجائر"(9).
ومن المعروف أن شكل المدخن يبدو للآخرين أكبر من سنه الحقيقية، وخاصة شكل المرأة المدخنة، لأن التدخين يسبب زيادة التجاعيد في الوجه. وقد يشعر المدخن نفسه بالشيب قبل الأوان بسبب تأثير التدخين الضار في كل خلايا الجسم. وقد شعر شاعرنا بالشيب المبكر فقال سنة 1931 وهو في العقد الرابع من العمر:
عجيبٌ مشيبيَ قبل الأوانِ وأعجبُ ألاّ أُرى أشيبا
فإنّ النوائبَ عاركتُها تردُّ فتى العشرِ محدودِبا
ولقد تعثرت صحته في سنواته الأخيرة وشعرَ بالوهن في أعضائه فقال في حفلة اليوبيل الفضي لجريدته "السمير":
نفسي تحسُّ كأنما أثقالُها قد خُيّرت فتخيّرتْ أعضائي
وقد يضطر الشاعر أحيانًا إلى أن يدّعي النحول والسقم والمرض ويبالغ في ذلك لأغراض شعرية في حالة الحب والحزن، ولكن شاعرنا كان صادقًا في مرضه ونحوله. فصوره كانت تدل على أنه كان نحيلاً لأن سموم التدخين تؤثر في مركز الإحساس بالجوع في المخ فلا يتغذى جيدًا. وسموم التدخين تضعف حصانة جسم المدخنين ضد الأمراض فيصابون بالالتهابات الجرثومية والحمى والسرطان أكثر من غير المدخنين. لذلك لا أعتقد أن وصفه لحالته المرضية في الأبيات التالية ادّعاء ومبالغة شعرية، ولكنه كان يصف إحساسًا حقيقيًّا بالمرض وخاصة أنه جعل عنوان القصيدة (في فراش المرض):
مرضتُ فأرواحُ الصّحابِ كئيبةٌ بها ما بنفسي، ليت نفسي لها فِدى
نحلتُ إلى أن كدتُ أنكر صورتي وأخشى لفرطِ السُّقمِ أن أتنهّدا
لقد توشِكُ الحُمَّى، إذا جدّ جدّها تقوّم من أضلاعيَ المتأوّدا
تغلغَلَ في جسمي النحيلِ أوارُها فلو لم أقُدَّ الثوبَ عنه تَوقَّدا
ولقد عرفنا الشاعر إيليا أبو ماضي بالتفاؤل، بل أرى أنّه شيخ الشعراء المتفائلين، وذلك لقوله في بيته الخالد الذي كنت أردده منذ صباي:
فتمتّعْ بالصّبح ما دمت فيه لا تخفْ أن يزولَ حتى يزولا
ولكن متاعبه الجسمية والنفسية، وخاصة مرض قلبه جعله يتشاءم ويتوقع الرحيل عن الدنيا، بل يبدو أنه كان يرغب في الموت إذ قال في الأبيات الحزينة المتشائمة التالية:
لا تقلقي يومَ النوى أو فاقلقي يا نفسُ كلُّ تَجمّعٍ لتفرُّقِ
عنّفت قلبي حين طالَ خفوقُهُ فأجابَ: بل لُمني إذا لم أخفُقِ
هانت معاذيري وضاعت حكمتي لما سمعتُ حكايةَ القلبِ الشقي
وكما هو متوقع في حالة المدخن الشره مثل شاعرنا أن تكون نهايته بمرض القلب أو الصدر أو السرطان في الغالب، فكان نصيبه مرض القلب الذي عاناه كثيرًا، وأدى إلى وفاته بالسكتة القلبية في نيويورك يوم 23/11/1957 ولم يكن قد تجاوز 66 سنة من عمره.
أما بخصوص إدمان إيليا أبو ماضي التبغ الذي سبب له الكثير من المشاكل الصحية فإنه اقتنع أخيرًا بضرورة ترك التدخين وقد فعل. ولكن إقلاعه عن التدخين جاء متأخرًا، فلم يستفد قلبه المعطوب بالتدخين منذ الصبا من إقلاعه المتأخر. وقد تناقل الكثير من صفحات الإنترنت وصف إيليا أبو ماضي لترك السيجارة بأسلوب أدبي كما يلي:
سُئل الشاعر إيليا أبو ماضي لماذا انقطع عن التدخين فأجاب: أدمنت التدخين إدمانًا شديدًا بحيث إني كنت أستغني عن القداحة أحيانًا إذ أشعل السيجارة من عقب السيجارة. ثم انقطعت فجأة عن التدخين وصرت أبغضه وأسعى إلى منع أصحابي منه. أما السبب فهو: في إحدى السهرات الحميمة كنت أدخن كعادتي. وكان بين الساهرين طبيب خفيف الروح. قال لي أحدهم: يا صاحبي لماذا لا تُقلع عن التدخين فهو يضر بصحتك ويحرق مالك على غير طائل؟
أجبته: إن للتدخين حسنات كثيرة، رغم سيئاته، منها أن السيجارة هي رفيقك الدائم تسليك وتفرج همّك وتساعدك على التفكير وتشحذ القريحة، لا سيما بالنسبة للشاعر.
وكان الطبيب يصغي إلى كلامي باهتمام فلما انتهيت قال: لقد نسيت يا صديقي فوائد أخرى للتدخين.
وتعجب الحاضرون كيف أن الطبيب يتحدث عن فوائد التدخين وتشجعت أنا إذ رأيت في الطبيب حليفًا. لكن سروري لم يدم طويلاً بعد أن ذكر الطبيب هذه الفوائد وشرحها، وهي: أولاً: التدخين يُبعد الكلاب عن المنزل. وثانيًا: أنه يقضي على البرغش والهوام. وثالثًا: أن المُدخن لا يذوق طعم الشيخوخة. وإذ رآنا كلنا منذهلين ننتظر شرح هذه الفوائد قال: التدخين يبعد الكلاب لأن المدخن يسعل سعالاً شديدًا يخيف الكلاب، ولأنه برائحته القوية السامة يقضي على البرغش والهوام، ثم أنه يقصر العمر فلا يذوق صاحبه طعم الشيخوخة لأنه مُعرض لمرض القلب فيموت فجأة. وعلى الفور أطفأت السيجارة وودعتها إلى الأبد.©
الهوامش:
1. حجر أحمد البنعلي: مجنون ليلى بين الطب والأدب، دار الفكر – دمشق.
2. حجر أحمد البنعلي: معاناة الداء والعذاب في أشعار السياب- مطابع الدوحة الحديثة – الدوحة.
3. صلاح الدين الهواري: ديوان إيليا أبو ماضي. دار مكتبة الهلال للطباعة والنشر –بيروت لبنان 2006.
4. سالم المعوش: إيليا أبو ماضي بين الشرق والغرب. مؤسسة بحسون للنشر والتوزيع –بيروت، لبنان 1997.
5. محمد حمود: إيليا أبو ماضي شاعر الغربة والحنين. دار الفكر اللبناني –بيروت
6. (http://www.eurekalert.org/pub_releases/2007-07/uomm-ifj070307.php).
7. طه حسين: حديث الأربعاء، الجزء الثالث، ص 198 – 200، دار المعارف، ج.م.ع0 1981
8. الأعمال الشعرية الكاملة – إيليا أبو ماضي ، دار العودة - بيروت 2004.
9. حلقة عن إيليا أبو ماضي على قناة الجزيرة الفضائية في 23/8/2009 م قدمها عبد الرحيم فقرا- قناة الجزيرة.