top of page

جنون العشق في الخليج

جنن العشق عشاقاً كثيرين من العرب وغير العرب يصعب حصرهم، وكذلك فعل العشق في بعض أبناء الخليج في هذا العصر الحديث الذي نعيش فيه. سأستعرض في هذا الفصل قصة الشاعر القطري محمد الفيحاني وعشقه. وسأبين التأثير الكبير للمجنون قيس بن الملوح في الفيحاني وشعره. ثم سأوجز قصة عاشق خليجي معاصر من غير الشعراء لن أذكر اسمه، جننه العشق أيضاً. كما أن لبطل قصتنا الرئيسية في هذا الكتاب، العاشق العذري مجنون ليلى تأثيراً مستمرًّا في العاشقين والمحبين حتى عصرنا الحاضر.

 

الفيحـانـي

ففي العصر الحديث عُرف في قطر الشاعر النبطي محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، الذي ولد في الفويرط (1) من شمال قطر سنة 1325 هـ (1907م) بأنه شاعر عاشق، وقد شابَهَ العشّاقَ العذريين عفة وصدقاً وإخلاصاً. فقد كان الشاعر يحب فتاة قيل إنها ابنة خاله، أراد أن يتزوجها، ولكن عائلتها لم توافق على زواجه منها، لأن لها ابن عم. فالتقاليد الاجتماعية في قطر تعطي الأولية لابن عم الفتاة في الزواج منها. فظل الفيحاني وفيًّا لحبه هائماً متيماً، حتى أضناه الحب وقتله العشق وهو في ريعان الشباب لم يتجاوز الثلاثين من العمر. ولقد اعترف الفيحاني بأن العشق جننه، كما سأوضح أدناه من خلال أشعاره المنشورة في ديوان محمد بن عبد الوهاب الفيحاني(1).

 

لقد شاهدت مقابلة في تلفزيون قطر عن الفيحاني مع السيد كليب محمد الكواري سنة 2000م. وكان كليب قد رافق الفيحاني في الغوص على اللؤلؤ وهما شابان. وقال كليب في المقابلة إن الفيحاني قد مرض بسبب العشق في آخر أربع سنوات من عمره ونحل. فعولج بالكي على صدره (ورسم كليب بإصبعه دائرة في منتصف صدره ليوضح مكان الكي) ولم يحس الفيحاني بحرارة الكي، بل سأل بعد أن فرغوا من كيه إن كانوا قد كووه، فقالوا: نعم. وأخيراً أُخذ إلى البحرين للعلاج وتوفي هناك، ولم يتزوج. أمّا الفتاة التي أحبها، فليست بنت خاله كما أشيع، ولكنها من نفس قبيلة خاله (كوارية). فقد تزوجت وأنجبت بنتاً وماتت الأم والبنت قبل موت الفيحاني.

 

ويبدو لي من إشارة كليب إلى منتصف الصدر أن الفيحاني قد عانى مرض القلب مثل قيس بن الملوح، كما أنه لم يحس بحرارة النار مثله.

 

ولقد ذكر السيد كليب محمد الكواري في مقابلته مع تلفزيزن قطر معلومات اجتماعية أخرى، تستحق الذكر. قال(2):

 

" كان الفيحاني - الذي ولد في قطر- قد ذهب إلى دارين صغيراً، ثم عاد إلى قطر عندما كان عمره 22 سنة، بينما عمري (كليب) آنذاك 15 سنة". كما قال إنه رافق الفيحاني في الغوص على اللؤلؤ. وكان الفيحاني "يحمل ديوانه تحت إبطه وقلم الرصاص على أذنه". ووسّط الشاعر الكثير من الناس لإقناع أهلها (الحبيبة) بزواجه منها، ولكن لم يتجرأ أحد على مخاطبة أهلها في ذلك، لأن العرف القبلي يحتم كما قال كليب: "أن البنت لابن عمها. كما أن البنات قليلات آنذاك، حتى إن هناك رجالاً لم يحصلوا على زوجات. و لا بدّ للبنت أن تتزوج ابن عمها غصبا،ً مهما كان شكله أو عقله، على أمل أن يكون في عياله خير للأهل. فليس للبنت خيار آنذاك. ولا تُخبر البنت قبل الزواج بموعد زواجها بفترة طويلة. يقول الأب لأم البنت قبل الزواج بيوم غدًا ستتزوج البنت. ولا يمكن الاعتراض على ذلك القرار. حتى إن النساء يلمن البنت إذا قالت إنها لا تريد ابن عمها".

 

لقد بان لي من قراءتي لأشعار الفيحاني أنه قرأ دواوين العشاق العرب وخاصة العذريين، وتأثر بهم كما صرح في أحد الأبيات قائلاً إنه أصيب بالحب الذي أصيب به توبة بن الحُمَيِّر المعاصر للمجنون:

لكن صابني ما صاب تُوبَه        وقبلي بالهوى صاب العقيلي

 

فتوبة بن الحمير من عشاق العرب المشهورين، وكان يحب ليلى الأخيلية الشاعرة المشهورة وخطبها فرده أبوها وزوجها رجلاً آخر، فانطلق يشبب بها.

 

وقد نسب داود الأصفهاني في كتاب الزهرة(4) إلى توبة بن الحمير أبياتاً نسبت إلى المجنون:

 

كأنَّ القلبَ ليلةَ   قيلَ   يُغدى        بليلى  العامريَّةِ    أوْ   يُراحُ

قطاةٌ غرَّها    شركٌ    فباتتْ        تُجاذبهُ  وقدْ   علقَ   الجناحُ

فلا في اللَّيلِ نامتْ فاطمأنَّتْ        ولا في الصُّبحِ كانَ  لها براحُ 

ومن أشهر أبيات توبة في كتب الأدب(5)

ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ  سَلَّمَتْ         علىَّ  ودُونِى    جندَلٌ    وصــَفائحُ

لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ أَو زَقَا         إليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ

 

أمّا العقيلي الذي ذكره الفيحاني في شعره فهو مزاحم بن الحارث العقيلي، وكان معاصراً للفرزدق وجرير وذي الرمّة، وكانوا يفضلونه على أنفسهم. فقد سئل الفرزدق: أتعرف أحداً أشعر منك، قال: لا، إلا غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد. وأجاب جرير بما يشبه ذلك.

قال عبد الملك بن مروان لجرير: يا أبا حزرة، هل تحب أن يكون لك بشيء من شعر غيرك؟ قال: لا، ما أحب ذلك، إلا أن غلاماً ينزل الروضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيلي، يقول حسناً من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله، كنت أحب أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري(3).

وكان جرير يقول: ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي(3):

 

وددتُ على ما كان من سرف الهوى         وغيّ الأماني أنّ ما شئت يُفعلُ

فترجع    أيــامٌ     مضـــين     ولذةٌ         تولت وهل يثنى من العيش أوّلُ؟

 

كان مزاحم العقيلي يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، فغاب غيبة عن بلاده، ثم عاد وقد

زوجت، فقال في ذلك(3)

أتاني بظهر الغيب أن قد تزوجت         فظلت بي الأرض الفضاء تدورُ

وزايلني لبي  وقد  كان  حاضراً         وكـاد  جناني  عند   ذاك   يطيرُ

فقلت  وقد أيقنت  أن ليس بيننا         تلاقٍ  وعيني   بالدموع     تمورُ

أيا سرعة الأخبار حين  تزوجت         فهل  يأتينّي     بالطــلاقِ  بشيرُ

 

وقيل إن مزاحم خطب ابنة عم له فمنعه أهلها لإملاقه وقلة ماله، وزوجوها رجلاً موسراً(3).

ولقد ورد اسم ليلى في أشعار مزاحم:

 

أيا ليل إن تشحط بك الدار غربة          سوانا ويعيي النفس فيك  احتيالُها

فكم ثم كم من عبرة  قد   رددتُها          سريع على جيب القميص انهِلالُها

خليلي هل  من  حيلة  تعلمانِها           يقرب  من  ليـلى   إلينا  احتيالُها

 

وقال ابن الكلبي: ومن الناس من يزعم أن ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيلي، هي نفس ليلى التي كان يهواها المجنون، وأنهما اجتمعا هو ومزاحم في حبها(3). ويروى أن الشاعر المجنون الذي يحب ليلى اسمه معاذ بن كليب (لا قيس بن الملوح). قال ابن الأعرابي: كان معاذ بن كليب مجنوناً، وكان يحب ليلى، وشركه في حبها مزاحم بن الحارث العقيلي، فقال مزاحمٌ يوماً للمجنون(3)

كلانا   يا  معـاذ  يحـب  ليلى         بفيَّ وفيك من ليلى الترابُ

شركتك في هوى من كان حظي         وحظك من مودتها  العذابُ

لقد  خبــلت  فؤادَك  ثم  ثنّت         بقلبي  فهو مخبولٌ  مصابُ

 

كان الفيحاني يطلق على حبيبته اسم "مي" وهو اسم مستعار، ومي اسم حبيبة لمزاحم العقيلي، وقيل إنها كانت امرأة من قومه، فتزوجت رجلاً كان أقرب إليها من مزاحم. فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها وقال: 

أيا شفتي ميٍّ أما من شريعة         من الموت إلا  أنتما  توردانيا؟

ويا شفتي ميٍّ أما لي  إليكما         سبيل وهذا الموت قد حل دانيا؟

 

فقالت: أعزز علي يا بن عم بأن تسأل ما لا سبيل إليه، وهذا أمر قد حيل دونه، فاله عنه. فانصرف(3).

 

فقصة الفيحاني وحبه لمي مشابهة جدًّا لقصة مزاحم وحبه لفتاة مثلها في الاسم وفي القرابة، وزواجها برجل أقرب منه إليها نسباً، وحرمانه منها (*).

---------------

  • بعد أن فرغت من كتابة هذا الفصل عن الفيحاني صدر للمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث (قطر) سنة 2005 كتاب قيم للباحثين علي عبد الله الفياض وعلي شبيب المناعي، عن محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، لم أطلع عليه إلا بعد أن تم كتابي هذا وأعد للنشر، ذكرا فيه أن العقيلي الذي قصده الفيحاني في شعره هو مبارك بن حمد العقيلي، شاعر من الإمارات أصله من الأحساء، أحب فتاة حساوية لم يتمكن من الاقتران بها. فقد يكون ما ذكره الباحثان أقرب للواقع مما استنتجته من قراءاتي وبحوثي الأدبية. ولكن كون الفيحاني ذكر توبة بن الحُمَيّر في صدر البيت:

 

         لكن صابني ما صاب تُوبَه       وقبلي بالهوى صاب العقيلي

 

وذكر العقيلي في عجز البيت جعلني أميل إلى أن الفيحاني يقصد الشاعرين القديمين اللذين عاشا في العصر الأموي وكان توبة معاصراً لمزاحم. وكان مصير الفيحاني مثل مصير الشاعرين وهو حب فتاة زوجت بغيره.

--------------------

كانت أشعار الفيحاني أشعاراً نبطية مفعمة بالمشاعر الحزينة، ولكن يصعُب على غير أبناء الخليج إدراك معانيها. ومع أني لست من المغرمين بأشعار النبط، إلا أن شعراً نبطيًّا مثل شعر الفيحاني حتم علي احترامها وتذوق ما بها من فنٍّ شعري ومشاعر متدفقة. فمثلاً قال في إحدى قصائد الغزل:

 

عمَّنْ   ترحَّل  سالي  الدار  يا  عين     استعلِميها وانْشدي يا حزينة

ابكي  علـى  لاماه   حتى   تذوبين      يمكن تِروق قلوبهم يا فطينة

من هجرهم فوق الثَّرى طحت وطْعين     بقيودهم رجلي تلوَّت سجينة

 

يخاطب الشاعر عينه قائلاً لها: أيتها العين الحزينة اسألي دار الحبيبة عن الحبيب الذي ارتحل عنها، وابكي عليه حتى يذوّبك البكاء، لعل قلوب الأحبة تشفق عليك، فإني أصبحت بسبب هجرهم مطعون القلب جريحاً ملقىً على التراب، سجينَ حبٍّ، وقد حَنَت وعطفت رجلي قيود الحب وأكبالها. ثم قال:

الله  عَساهم   لي   ولُوني  معـفِّين      عَنِّي وحالٍ لي نحل راحمينه 

يطلب منهم العفو عنه - مع أنه لم يقترف ذنباً- ويتمنى أن يرحموه لما حل به من ضعف ونحول.

وقول الفيحاني إنه أسير أو سجين الحب في البيت:

من هجرهم فوق الثَّرى طحت وطْعين      بقيودهم رجلي تلوَّت سجينة

يذكرني وصف نفسه بأنه سجين الحب بما قال المجنون قيس بن الملوح إنه موثوق بقيود الحب عندما قال:

 وَقَد صِرتُ مَجنوناً مِنَ الحُبِّ هائِماً       كَأَنِّيَ عانٍ في القُيودِ وَثيقُ

 

وعندما تمعنت أكثر في أشعار الفيحاني اتضح لي جليًّا أن الفيحاني قد تأثر كثيراً بأشعار المجنون، فظهرت بعض أوصاف وتشبيهات المجنون ومعاناته النفسية في الأشعار النبطية للفيحاني.

 

                مقارنة بين أشعار المجنون قيس وأشعار الفيحاني

 

لقد سلك الفيحاني في أشعاره نفس المواضيع التي سلكها المجنون، شكا نفس أعراض العشق، وذكر نفس الأوصاف والمعاناة التي ذكرها المجنون قبله:

1. العاشق مجنون:

 فلنبدأ بمصطلح الجنون الذي اشتهر به قيس وردده كما سأوضح بإسهاب في الفصول القادمة مثل قوله:

وإني لمجنون بليلى موكـل      ولست عزوفاً عن هواها ولا جلدا

أمّا الفيحاني فيقول إنه مجنون بلا عقل، وإن ثيابه مقطعة، وليس ذلك بسبب الفقر، ولكن بسبب جنون الحب. ألم يكن قيس مثل ذلك عرياناً يمشي في البراري، وقد مزق ملابسه كما يدعي الرواة؟ لذلك قال الفيحاني:

مجنون والعقل رايح              ورِدون ثوبي شرايح

 

2. المعشوقة كالشمس نوراً وحسناً:

 لقد شبه المجنون محبوبته بالشمس في عدة قصائد، حيث قال:

تَبَدَّت لَنا كَالشَمسِ تَحتَ غَمامَةٍ       بَدا حاجِبٌ مِنها وَضَنَّت بِحاجِبِ

 وقال:

 فَقالوا أَينَ مَسكَنُها وَمَن هِي؟       فَقُلتُ: الشَمسُ، مَسكَنُها السَماءُ

وقال:

أَلَيلى بِأَبوابِ الخُدورِ تَعَرَّضَت       لِعَينِيَ أَم قَرنٌ مِنَ الشَمسِ طالِعُ

أمّا الفيحاني فقال إنها ريم كالمصباح، ثم أضاف أنها فتاة كشمس المرآة:

تعيظك فيه   كالقنديل  ريمة       فتاة كَنْها شمس المراية

 

3. الحبيبة داء الحبيب ودواؤه:

قال قيس إنه لا يحتاج إلى طبيب يعالجه لأن من يهوى هي العلة وهي الدواء، فلو شاءت ليلى أن تشفيه لبرئ:

 

وَجاءا  بِالطَبيبِ  لِيَكوِياني       وَما  أَبغي  عَدِمتُهُما  اكتِواءَ

فَلَو ذَهَبا إلى لَيلى فَشاءَت       لأهدَت لي مِنَ السَّقمِ  الشِّفاءَ

 

أمّا الفيحاني فقال إن العلة نفسها (أي الحبيبة) هي طب ودواء المصاب بالهوى من كل أذى،

فكأنه يقول مثل ما قال أبو نواس: "وداوني بالتي كانت هي الداء":

 دوا من بالهوى نفسه سقيمة             وطِبَّة علِّته من كل ذاية

 

4. العشق يسبب خفقان القلب:

لقد كرر المجنون في الكثير من أشعاره خفقان القلب عند تذكر الحبيبة أو التفكير فيها أو ذكر اسمها، كقوله:

إِذا جِئتَهُ في الناسِ مِنهُ عَلى الرَّجا       أَلَمَّ بِقَلبٍ مُستَطارِ الخَوافِقِ

وقال:

أَظَلُّ رَزيحَ العَقلِ ما أُطعَمُ الكَرى       وَلِلقَلبِ مِنّي أَنَّةٌ وَخُفوقُ       

 

وكذلك قال الفيحاني إن طاريها أي ذكرها يجعل قلبه "يفزّ" أي يقوم أو يقفز ويتدفق منه الدم، كما يتدفق الماء من الإناء:

لطاريها ترى قلبي حشيمة                يِفِزّ وينْدِفِقْ ماعون ماية

وقال كأن القلب بسبب نأي الأحبة، به شيء يضرب ويدق ويخفق كما تخفق الريح:

القلب مفجوع من حسرته  ذاب       كِنَّه على جمر الغضى والمكاوي

إلا وبه من بعد الاحباب ضَرَّاب      دفٍّ وخفق  خفوق ريحٍ  سماوي

 

كما قال إنه سمع في قلبه خفقاناً وتصفيقاً كأنه صوت دُفٍّ يدق:

سمعت بظامري صَفْق وخفيقي       لَكِنّ الطّار يرعد به رعادي

 

5. القلب دلو والحب حباله:

 قال قيس إن حب ليلى كالحبال التي يعلق بها الدلو، فلو انقطعت الحبال لسقط الدلو وارتطمت بحواف البئر وتقطعت، فكذلك قلبه إذا تقطعت عنه حبال الحب تلف وفني، حيث قال:

وكيف وحبها  علـقٌ بقلبي        كما   علقت  بأرشيةٍ  دلاءُ

 

أمّا الفيحاني فقال إن قلبه مثل الدلو إذا قطعت العراقي (أخشاب معروضة على الدلو لتثبيتها مفردها عرقوة) سقطت الدلو في بئر عميقة مظلمة وسَحقت حوافُ البئرِ الدلوَ وبددتها تلفاً:

 

سواة  الدلو   مجذوذ  العراجي       هوت بيرٍ بعيد القاع داجي

سهجها ضرب جيلانه سهاجي       تَقَطَّع جرمها وآزت  بدادي

 

6. علاج الحب عسير:

قال المجنون إن طبيب الإنس عجز عن علاجه:

أَلا  يا  طَبيبَ  الجِنِّ  وَيحَكَ   داوِني    فَإِنَّ  طَبيبَ  الإِنسِ  أَعياهُ دائِيا

 

وأمّا الفيحاني الذي أُخذ للعلاج في البحرين، فقد عجز الطبيبان الأمريكيان (التبشيريان) هريسن وديم عن علاجه أيضاً، فقال:

الحب طِبّه عسر         واعجز هريسن وديم  

 

7. عتاب الحبيبة:

 قال قيس معاتباً ليلى ومبيناً أن فراقها سيقتله:

 فَوَاللَهِ  ثُمَّ   اللَهِ    إِنّــي    لَدائِبٌ       أُفَكِّرُ  مـا  ذَنبي  إِلَيكِ   فَأَعجَبُ

وَوَاللَهِ  ما أَدري    عَـلامَ  هَجَرتِني      وَأَيَّ  أُموري  فيكِ  يا لَيلَ  أَركَبُ

أَأَقطَعُ  حَبلَ الوَصلِ فَالمَوتُ دونَهُ       أَمَ اشرَبُ كَأساً مِنكُمُ لَيسَ يُشرَبُ؟

 

 قال الفيحاني معاتباً مي (اسم مستعار للحبيبة) بأنها تجهل ما به من الحب الذي يقتله، فلا هو بسالم من حبها، ولا هي تقبل أن تلام في قتله:

 

قضى الدّيان دينه من غريمه       ونا يا ميّ ما  جاني  وفايه

لَكنِّكْ بالبَلا اللي بي  غشيمة       ولا  عندك  بهيماتي  درايه

ولا أنتِ من تلافي  مستليمة       ولاني منك سالم عن عنايه

 

8. السهر:

كلاهما يشتكي من الأرق، بينما الحبيبة تنام. المجنون يعجب من قدرة ليلى على النوم، بينما هو لا يستطيع النوم:

عَجِبتُ لِلَيلى كَيفَ نامَت وَقَد غَفَت       وَلَيسَ لِعَيني  لِلمَنامِ سَبيلُ

والفيحاني يقول إن حظ عينهِ هو السهر بينما الحبيبة نايمة:

جزا الجفن في شَفِّك من النوم والكرى   سهير الدُّجى وانتِ بالأسحار نايمة

 

9. البكاء:

 البكاء قدر كل العشاق ومن أعراض العشق الثابتة، قال المجنون:

أَبيتُ صَريعَ الحُبِّ أَبكي مِنَ الهَوى       وَدَمعي عَلى خَدّي يَفيضُ وَيَسجُمُ

وقال الفيحاني:

وأنا اللي بذكراهم دموعي تسايلت        على كل ما خطيت تمحي رقايمه

 

10. اليأس:

قال المجنون:

يَقولونَ عَن لَيلى عَيِيتَ وَإِنَّما       بِيَ اليَأسُ عَن لَيلى وَلَيسَ بِيَ الصَّبرُ

وَإِنّي  لأهواها  وَإِنّي   لآيِسٌ       هَوىً  وَإِياساً  كَيفَ  ضَمَّهُما الصَّدرُ

وقال الفيحاني يخاطب صاحباً له اسمه صالح: تريد الوصل وليس للوصل سبيل، وكنت أنا قد طلبت الوصل قبلك من حبيبي، وانتظرت طويلاً فلم أفلح، فيئست، ثم بعد اليأس من الحبيب زرعت أمنيات فلم أحصد ما رجوته من ثمر:

تروم الوصل يا صالح وتهوى            ولا للوصل  لو رمته سبيلي

بغيت الوصل  من قبلك ورمته            وطالت  مدتي وابطا رحيلي

زرعت مناي عقب اليأس فيهم            وقل من الرجا حاصل ذبيلي

 

11. الحب يوقد ناراً في القلب: 

قال المجنون يشتكي من نار أوقدها الحب في قلبه:

ذَكَت نارُ شَوقي في فُؤادي فَأَصبَحَت       لَها وَهَجٌ مُستَضرَمٌ في فُؤادِيا

 

وقال الفيحاني يستعيذ بالله ويستعين به من نار شبت أيضاً في لب حشاشته أي في قلبه:

أنا لله من نارٍ توقَّد      بلُبِّ حشاشتي جارٍ دخيلي

 

12. ابتداء الحب أثناء الطفولة:

كلاهما يقول إن حبه للحبيبة بدأ منذ الصغر. وللمجنون بيتان مشهوران في ذلك:

 

تعلقتُ ليلى  وهي  ذاتُ   تمائــمٍ          ولم يبدُ  للأترابِ من ثديها حجـمُ

صغيرين نرعى البَهم يا ليت أننا          إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهـمُ

 

وأمّا الفيحاني فقال:

بليت بحبها طفلٍ فطيمة           من أول شبِّتي وأول صباية

 

13. المحبوبة غريم:

اشتكى كلاهما من الغريم (الحبيبة) لأنها لم تفِ أو تسدد الدين:

قال المجنون:

مَن عاذِري مِن غَريمٍ غَيرِ ذي عُسُرٍ       يَأَبى فَيَمطُلُني دَيني وَيَلويني

 

وقال الفيحاني:

قضى الديّان دينه من غريمه     وَانا يا مي ما جاني وفايه

 

14. قلب المحب في قبضة طائر:

فإذا كان القارئ ما زال في شك من استنتاجي أن الفيحاني تأثر بالمجنون قيس بن الملوح، فلينظر في أشهر بيت للمجنون عندي، وهو البيت الذي قادني إلى هذه الدراسة، كما سأوضح لاحقاً، فالبيت الشهير لقيس هو:

كأن فؤادي في مخاليب طائرٍ              إذا ذُكرت ليلى  يشدّ به قبضــا

 

ولقد استعار الفيحاني نفس تعبير قيس بتصوير قلبه في قبضة "كف" طائر، ومخاليب الطائر شابكة على القلب تؤلمه:

على قلبي شبك بالكف طاير               مخاليبه تساور في فؤادي

 

ولو تمعنا في البيتين الأخيرين لوجدنا أن الشاعرين نقلا لنا نفس الصورة عن قلب يقبض عليه الطير بمخاليبه، لكنّ هناك فروقاً دقيقة بين بيت المجنون وبيت الفيحاني. فالمجنون يقول إن قلبه موجود بين مخاليب طائر، ولكن عند ذكر الحبيبة ليلى يشد الطائر قبضته على قلبه فيؤلمه. أمّا الفيحاني فلا يربط بين قبضة الطائر والحبيبة. فالطائر أتى و"شبكَ" على قلبه بالمخاليب. فلفظة شبك تبين أن مخاليب الطائر لم تحط بقلبه فحسب، ولكنها تشابكت وتداخلت كتشابك أصابع اليد حول قلبه، ولذلك استعار لفظة "الكف" لمخاليب الطائر لأن الأصابع مقترنة بالكف. وكلمة شبك عند الفيحاني تعبر عن إحساسه أكثر، لأنه كان يعيش قرب سيف البحر، وكان يصيد السمك بالشباك، فلفظة "شبكَ" توحي بوقوع القلب في شبكة الصياد أيضاً. وقوله إن المخاليب "تساور" في قلبه أي تسطو وتبطش في قلبه فتؤلمه. فلفظة يساور أو يسُور الخليجية لم أسمعها إلا مقترنة بالمرض والألم، وللكلمة أصول فصيحة، ففي اللغة سورة الخمر: حدتها ودبيبها في الشارب، وسورة السلطان: سطوته وبطشه.

 

وهكذا رأينا الشبه الكبير بين الحب العذري للشاعر القطري محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، وإمام الشعراء العذريين قيس بن الملوح في حب فتاة من أقاربه، لم يفلح في الزواج منها لأسباب اجتماعية، وتزوجها رجل آخر. فأصابه الهم والغم والنحول والمرض بسبب الحب ومعاناة الفراق. وقضى بقية حياته مثل قيس بن الملوح يشكو ألم النأي والهجر متمنياً الوصال. وأسهب في وصف أعراض مرض العشق الذي جره للهلاك في سن مبكرة كما أهلك المجنون. ووصف لنا أنه يشعر بأن قلبه في قبضة مخاليب طائر، وكأن ما أصاب قيس بن الملوح من أعراض مرض القلب قد أصابه أيضاً. فإن كان ذلك تعبيراً عن إحساس حقيقي في صدره، وليس توهماً بسبب تأثره بأشعار المجنون، فإني أجزم إذن بأنه أصيب أيضاً مثل المجنون، بمرض تصلب شرايين القلب. ومات شابًّا في مثل سن المجنون عندما مات أي حوالي الثلاثين من العمر. 

(تابع أدناه)

مراجع القسم أعلاه:

1.    ديوان محمد بن عبد الوهاب الفيحاني (انتخاب الدرر من شعراء قطر) – إدارة إحياء التراث الإسلامي – قطر.

2.    مقابلة مع السيد كليب محمد الكواري - تلفزيزن قطر -  سنة 2000م.

3.    الأصفهاني، أبو فرج: الأغاني – دار صادر- بيروت2002م.

4.    الأصفهاني، محمد بن داود: الزهرة – مكتبة المنار – الأردن، 1985م.

5.    ابن قتيبة، محمد عبد الله: الشعر والشعراء – دار الثقافة – بيروت، 1969م. 

             عاشق خليجي جننه العشق 

ليس الحب داء الشعراء فقط، بل يصيب غير الشعراء أيضاً. ولكن ينسى الناس قصة العاشق غير الشاعر بمرور الزمن، أمّا الشاعر فأشعاره تخلّد قصة عشقه، فيتداولها الناس قروناً، وقد يضاف إليها الكثير من الحوادث والقصص للمتعة والتسلية بمرور الزمن.

 

سأروي في هذا الفصل قصة شاب خليجي أودى به العشق. عرفته عن كثب معرفة صديق أنست بصحبته أعواماً، وقرأت معه القصص والنوادر والأشعار أزماناً. لقد كان ذلك العاشق من جيلي، من أبناء الإمارات العربية المتحدة يعمل في قطر عندما كنت طالباً في الثانوية. سأطلق عليه في هذا المقال اسم "العاشق" بدلاً من اسمه الحقيقي. لقد كافح العاشق وكدح. عمل نهاراً ودَرَس ليلاً حتى أنهى المرحلة الثانوية. كنا كالأخوين نقضي الكثير من أوقات فراغنا والعطل الأسبوعية والنزهات معاً. كان ذكياً في تحصيله العلمي والأدبي، ظريفاً في حديثه، كريماً في ماله، ووطنيًّا يعتز بوطنه وعروبته. لم يكن هناك في سيرته قبل أن يبتليه الله بالعشق أية أعراض مرضية، عضوية كانت أو نفسية، أو أي مشاكل عاطفية أو تصرفات توحي باختلال في العقل.

 

لقد ماتت أمه وهو صغير فتكفل به جده لأمه ورباه، وعوّضه عن حنان الأم وحنان الأب. ومع أن والده كان حياً آنذاك إلا أنه كان يعيش بعيداً عنه مع زوجة أخرى. فنشأ ذلك الطفل الصغير محباً لجده حباً جمًّا، ملتصقاً به التصاقاً شديداً.

 

بعد أن أكمل دراسته الابتدائية في بلده الإمارات العربية المتحدة، التي كانت تسمى ساحل عمان آنذاك، انتقل للعمل في قطر بموافقة الجد وترتيبه سنة 1959. وبعد أن استقر في قطر واصل الدراسة الإعدادية والثانوية ليلاً.

 

لقد ذهب من قطر سنة 1960م لقضاء الإجازة الصيفية في الإمارات. ولما تأخر عن موعد العودة فاجأني ببرقية، حيث لا يوجد هاتف في المدينة النائية التي كان فيها آنذاك. يقول في البرقية: "أخي العزبز ... أنا في مدينة (...) ومصاب بالملاريا. أعاني الآن حمى شديدة ورعشة. لم أكتب لك رسالة لأن الحمى أثرت في قواي العقلية، فأخاف أن أكتب شيئاً وأنا في هذه الحالة فتظنني مجنوناً!.. سأعود إلى الدوحة بعد أن أتعافى....". ثم عاد ولم يكن هناك أثر اختلال لقواه العقلية. وشرح لي معاناته مع الملاريا وهذيانه أثناء النوم. وقال إنه كان يقرأ عن الملاريا وهو تحت العلاج الطبي.

 

كان يحب قراءة الشعر، وخاصة أشعار الغزل، كما كان يحفظ القليل من أشعار عمر بن أبي ربيعة والكثير من أشعار المجنون قيس بن الملوح، وبعض الأشعار النبطية في الغزل. ولقد تأثر كثيراً بقصة مجنون ليلى وأشعاره. وكان يصدق بعض الحوادث التي نسبت إلى المجنون كقطع يده بالسكين ومسكه للجمر دون أن يحس بالألم بسبب شدة الحب، بينما كنت أخالفه في ذلك آنذاك. ولا أدري إن كان لقصة المجنون تأثيراً فيما أصابه فيما بعد.

 

كنت أقوم بمباراة شعرية معه ومع بعض الأصدقاء حيث يأتي الواحد منا ببيت بدايته الحرف الأخير (حرف الروي) للبيت الذي أتى به صاحبه. كما كان مغرماً بأغاني الحب وخاصة أغاني عبد الحليم حافظ وصباح وأم كلثوم. وكنا نستمع إلى أغاني أم كلثوم مساء الخميس معاً.

 

وأذكر حادثة لُمته عليها. كان للعاشق عم من شيوخ الدين الوهابيين المتشددين. وكان والدي الذي درَّس ذلك العم بعض مسائل الفقه والحديث ينتقد تشدده. لقد رآني مرة عم صاحبي وأنا أكتب بيدي اليمنى وأرفع كأس الماء باليد اليسرى لأشرب، فنهرني بعنف وصرخ بي قائلاً: لا يجوز شرب الماء باليد اليسرى. وكان يحرم شرب الكوكاكولا ويدعي أن بها دهن الخنزير. أمّا قصة صاحبي العاشق المتحرر المتطور مع عمه المتشدد، فإن العم دخل غرفة صاحبي في بيتهم في الإمارات فوجد صورة معلقة في الغرفة، فغضب وهشمها بعصاه. لأنه يعتبر وضع الصور الآدمية في البيوت حراماً. فلما عاد العاشق إلى المنزل ورأى ما فعله عمه بالصورة، وكانت الصورة للرئيس جمال عبد الناصر، اشتط غضباً وذهب إلى بيت عمه وأخذ مجموعة من كتب العم الدينية، وحذفها من الشباك انتقامًا لجمال عبد الناصر الذي كان رمزاً للشعور الوطني والقومي عند الكثير من الشباب العربي آنذاك. فما كان من العم إلا اتهام ابن أخيه "بـقلة العقل".

 

بعد أن أنهى صاحبي الدراسة الثانوية الليلية في الدوحة ذهب إلى بغداد للدراسة الجامعية. وقد زرته في بغداد في طريقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك وقع في غرام زميلة له في الجامعة، كما ذكر لي هو وأكد القصة زملاؤه القطريون الذين كانوا معه في بغداد. لقد استحوذت تلك الفتاة، وهي طالبة جميلة من مدينة البصرة، على عقله وقلبه بدون أن تعلم. كانت بشرتها تميل إلى البياض، وعيناها واسعتان، وأنفها صغير مدبب متناسق مع وجهها الجميل. أما شعرها الأسود الفاحم فكان مرسلاً يتدلى على الكتفين. وكان العاشق مشغولاً أثناء المحاضرات المدرسية بالنظر إلى تلك الزميلة المحبوبة والتمعن في شعرها، مما ألهاه عن الاستماع إلى المحاضرات. وكأنه يكرس قول قيس:

 

وَشُغِلتُ عَن فَهمِ الحَديثِ سِوى       ما كانَ مِنك وَحُبُّكُم شُغلي

 

كان عاشقنا الخليجي يستعير من الفتاة بعض كراساتها وينقل منها ما تسجله من ملاحظات عن المحاضرات. كان يستعير كراستها وإن كان في غير حاجة إلى ما فيها من معلومات. كان يستلذ بلمس الكراسات وشمها والنظر إلى ما فيها. كما أنه استعمل الكراسات وسيلة لمحادثتها والاتصال بها. وكان العاشق قد توهم أن الفتاة تبادله الحب. وكان يأمل أن يرى في الكراسات رسالة حب موجهة إليه أو إشارة رمزية ولكنه لم يعثر على ذلك. كان يكرر المرور أمامها في ساحة الجامعة في الفسح عندما يراها واقفة متمنيًّا أن تناديه فلم تفعل. كان يتوهم أنها تحبه ولكنها تكتم الحب لتختبره. كان يكثر الالتفات من حوله إذا ما سار مع زملائه وأصدقائه في الشارع، متوهماً أنها تبث الجواسيس من حوله لتتأكد أنه ليس له علاقة بفتاة أخرى. وفي الواقع لو عرف عاشقنا أنّ الفتاة لم تكن تبادله المودة منذ البداية لقال ما قاله قيس:

 

فَواكَبِدا مِن حُبِّ مَن لا يُحِبُّني       وَمِن زَفَراتٍ ما لَهُنَّ فَناءُ

 

وفي تلك الفترة الحرجة من حياته انتقل إلى رحمة الله جده الذي رباه، وكان أقرب الناس إليه وأحبهم عنده، فحزن عليه حزنا شديداً. وقد بلغني ذلك وأنا في كلية الطب في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1970، فكتبت له أعزيه، فأجابني برسالة خطية، تكشف عن عمق مشاعره وسموها، وإخلاصه لمن أسدى إليه خيراً. كما شكا لي فيها من عمه، صاحب الآراء الدينية المتشددة، ولكنه لم يتطرق لمشكلته الشخصية مع الحب، لأن مناسبة الوفاة حالت دون التطرق لمأساة الحب التي كنت على علم بها، قال فيها:

 

"أخي الوفي الطيب القلب..

تحية العروبة الخالدة أزفها إليك من بلد الرافدين العراق، ومن عاصمتها بلد الرشيد بغداد، موفورة بأطيب الآمال وأجلها.

عزيزي: وصلتني رسالتك المعبرة عن حبك وإخلاصك للصداقة والأخوة التي ربطت بيننا وستبقى طيل حياتنا إن شاء الله.

عزيزي: لقد عزيتني بوفاة الوالد الكبير .. لقد كان فراقه الأبدي محزناً ليس لي وحدي ولكن لكل الذين عرفوه وجالسوه. ولكن لو أخبرك عن عمي ... هؤلاء المتدينون كانوا يمانعون أخذ جدي إلى المستشفى لأنهم يدعون أن به مرض الموت! ولقد غضبت على عمي.. أخبر والدك وقل له هذا ما فعل عمي.. لا أدري ماذا يريد من موت جدنا.. فجدنا بمثابة الأب للجميع وحبيبنا جميعاً. رحمه الله وأسكنه جناته. لقد أبرنا ونحن صغار. وكتب لي ولأخي ثلثي تركته. هذا لطف منه، ولكن نحن لا نريد هذه القشور.. نريده هو كرمز لنا وفخر. إنا لله وإنا إليه راجعون.

واسلم لأخيك المحب لك إلى يوم الدين".

 

لقد أخبرني بعض الأصدقاء الذين يدرسون في بغداد مع العاشق، أن حالته النفسية والصحية قد تردت بسبب معاناته هموم الحب وهيامه بالفتاة البصرية. فقرروا التبرع بالسعي بينه وبينها بالخير على أمل أن تقبل الزواج منه. فأخبرتهم الفتاة أنها مخطوبة لابن عمها. كما قالت إنها لا تبادل عاشقنا الحب، وليس بينها وبينه أية مشاعر، ولا تعتبره إلا زميلاً في الفصل مثل بقية الطلبة.

 

ولمّا أدرك صاحبنا أن أحلامه الغرامية وآماله بالزواج من تلك الحبيبة قد تحطمت على أرض الواقع، وأنه لا أمل له في وصالها، أصيب بالكآبة النفسية واليأس، واعترته الوساوس، وقلت شهيته للأكل، وساءت صحته. وبلغني من الأصدقاء معه أن صاحبي العاشق قد "تجنن" بسبب الحب، ولم يتمكن من أن يدرس أو يعيش حياة طبيعية، فأخذه الأصحاب إلى الطبيب لعلاجه، فأُدخل مستشفىً للأمراض النفسية شهوراً عديدة. فانطبق عليه قول مجنون ليلى:

 

أيا ويحَ من أمسى يُخَلَّسُ عقلُه           فأصبحَ مذهوباً به كلَّ مذهبِ

 

ولما سرح من المستشفى لم يستطع أن يعود للدراسة، فعاد إلى الإمارات العربية المتحدة دون أن يكمل دراسته. لقد زرته بعد عودته لأطمئن على صحته، فوجدته ناحل الجسم ضعيف البنية منهار القوى. واعترف لي بمرضه النفسي وأسبابه بصراحة أخوية. وقال لي: إن حالته النفسية بسبب غرامه بالفتاة البصرية صعبة جدًّا، ولكنها تحسنت قليلاً بالعلاج. وهو يصاب بنكسات بين آونة وأخرى، كما أنه أفشى لي سرًّا يعذبه لم يخبر به أحداً غيري قائلاً: إنه لا يستطيع أن ينظر إلى رقم هاتف أو رقم على لوحة سيارة أو أي رقم مكتوب. بل إنه يضطر أن يغلق عينيه عندما تلوح له مثل تلك الأرقام، لأن أي أرقام مصفوفة تذكره بهاتف المعشوقة، فتثير في نفسه الكآبة واليأس والضيق والحرمان، ويكاد يفقد وعيه. ففؤاده مثل فؤاد قيس بن الملوح الذي حطمته ذكريات متعلقة بالحبيبة كما قال:

 

وَلي فُؤادٌ يَكادُ الشوقُ يَصدَعُهُ       إِذا تَذَكَّرَ مِن مَكنونِهِ الذِّكَرا

 

لقد نصح الأهلُ والأصدقاءُ العاشقَ بالزواج من فتاة أخرى، كما نصح أهل قيس بن الملوح قيساً من قبل. ولكن قيساً المؤمن بوحدانية المحبوب مثل بقية العشاق العذريين، رفض الاقتراح. أمّا صاحبنا الذي لا ينتمي للعشاق العذريين فتزوج من فتاة عربية كما شاء الأهل، لم يعرفها من قبل ليسلو عن حبيبته العراقية فلم ينجح، فانطبق عليه قول قيس:

 

تَسَلّى بِأُخرى غَيرِها فَإِذا الَّتي       تَسَلّى بِها تُغري بِلَيلى وَلا تُسلي

 

وأخبرني أنه اعترف لزوجته بحقيقة حالته وعشقه، فرقت له وحاولت أن تسليه فلم تنجح. بل أطلق اسم عشيقته على أول طفلة ولدت له. ولمّا لمته كما لامه طبيبه على ذلك التصرف قال لي: إنه يحب أن يسمع اسم العشيقة ويستلذ بمناداة اسمها، وكأنه يؤكد ما قاله مجنون ليلى:

 

أُحِبُّ مِنَ الأَسماءِ ما وافَقَ اسمَها       وَأَشبَهَهُ أَو كانَ مِنهُ مُدانِيا

 

 فعاش صاحبنا العاشق في الإمارات العربية المتحدة، كاتماً أسرار عشقه عن الناس، متحملاً آلامه، متأرجحاً بين الصحة والمرض، يعاني اليأس والحرمان، ولم تنته معاناته إلا بالوفاة بسكتة قلبية سنة 2001م وهو في الخمسينات من العمر. فمات حزناً ويأساً بعد أن أمرضه النأي، وقتله الحب، كحال معظم العاشقين. فلا بد يوماً من ذكر اسمه الحقيقي ليسجل في قائمة العشاق الذين جنّنهم الحب، وقائمة المحبين الذين قتلهم الحب. وقد يكون في صالحه يوم القيامة أن الله لم يلهمه الشعر، فلم يقل شعراً ينشر فيه أسرار حبه بل كتمه، كما أن الله لم يوفقه في وصال الحبيبة فبقي حبه حباً عفيفاً لم يشبه إثم. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من عشق فعف وكتم ثم مات مات شهيداً)(1). وقد يكون النص الصحيح للحديث ما رواه ابن كثير في كتاب البداية والنهاية(2) عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (من عشق فكتم فعف فمات، مات شهيداً). كما يروى (من عشق وكتم وعفّ غفر الله له وأدخله الجنة)(3). وذكر بن أبي حجلة(4) في (ديوان الصبابة) مضيفاً للحديث "وصبر" قائلاً: عن ابن عباس عن النبي ص أنه قال (من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله ذنبه وأدخله الجنة) وأضاف أن الناس قد اختلفوا في قوله عليه الصلاة والسلام هذا، فقال بعضهم كتم عشقه عن الناس، وقال بعضهم كتم اسم محبوبه، وقال الحصري: "أحب فكتم، ووصل فعفّ، وهجر فمات، فهو شهيد". رحم الله صاحبنا العاشق الشهيد وأسكنه فسيح جنته.

 

المراجع:

  1. الزمخشري: ربيع الأبرار ونصوص الأخبار – انتشارات الشريف الرضي – قم، 1410 هـ.

  2. ابن كثير: البداية والنهاية، الجزء الحادي عشر (الشبكة العنكبوتية).

  3. بهاء الدين العاملي: الكشكول – مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت، 1983.

  4. ابن أبي حجلة: ديوان الصبابة – دار مكتبة الهلال – بيروت، 1984م.

bottom of page