العشق في الطب الحديث
لم أجد في الطب الحديث اعتناءً كبيراً بالحب عامة، وبالعشق خاصة. كما يندر أن يتخصص أطباءُ معاصرون في مثل هذه القضايا. مع أن العَلاقة بين العشق والصحة الجسمية والنفسية معروفة عند العرب، وفي المجتمعات الأجنبية في آسيا وأوربا. وقد أكد الشعراء الغربيون عبر القرون، أن هناك عَلاقة بين العقل والجسم، وبالأخص العلاقة بين المشاعر الإنسانية والقلب. فشكسبير قد كتب في قصيدة قبل 400 سنة بسبب بعد الحبيب "فإن حياتي تغطس إلى الموت، والكآبة السوداوية تضطهدني"(Sonet 45) (1).
أما المجتمعات الغربية الحديثة، فتنظر لهذه المشكلة بنظرة غير جدية، بل قد ينكر البعض وجود مشكلة العشق أو حقيقتها، أو قد يعتبرها من أعراضٍ لأمراض نفسية أخرى. فالمجتمعات الغربية صارت تقلل من أهمية الانجذاب العاطفي بين الرجل والمرأة قبل الزواج. وصارت المهارة المهنية والدخل المادي أكثر أهمية من الحب. ففي دراسة علمية على حوالي 2000 فرد في المجتمع الإسباني، تبين أن فكرة ربط الحب بالزواج لا يؤمن بها في المجتمع إلا كبار السن وغير المثقفين من الناس(2).
العشق والطب النفسي الحديث:
نظر الطبيب النفسي الشهير سجموند فرويد إلى المشاكل النفسية من منظار جنسي بحت، وفسر كل تصرف من خلال ذلك المنطلق. ومن نظريات فرويد أن اختيار الشخص لمن يحب، نابع من حب الشخص لنفسه "حب الذات". وقد يعشق الإنسان من شابهَ الشخص الذي اعتنى به صغيراً.
ولا بد لي أن أكرر ما أوجزته في الفصل السابق عن نظريات فرويد في الحب لأهميته في الطب النفسي الحديث. إذ يعتقد فرويد أن الشخص يحب ذاته منذ الولادة. وأن الرغبة الجنسية مخزونة في الذات في الصغر. وعندما يشعر الطفل بالراحة من الإنسان الذي رباه ووفّر له الراحة وأزال عنه التوتر، تنسحب الرغبة الجنسية من الذات إلى الخارج، فتتجه إلى شخص آخرَ غير "الذات". ويرى فرويد أن بيئة الحب لا توجد فحسب، بل ممكن أن تخلق. فيمكن للشخص أن يهيئ الظروفَ لشخص آخرَ كي يحبه. كما يستطيع الإنسان أن يَشفي نفسه مؤقتاً من عجزه وضعفه، بجعل شخص آخرَ يحبه مع ما فيه من نقص. فكلا الحبيبين يشفي الآخر من نقصه، وكلاهما يشعر أنه جزء من الثاني(3).
ولكن نظريات فرويد غريبة ولا تتفق مع بعض الدراسات العلمية الحديثة حول الحب، ولا يتفق معه الكثيرون من المختصين في علم النفس الحديث. وهناك من الأطباء النفسيين من اعتبر العشق مرضاً إدمانيًّا (Love Addiction)، يدمن فيه شخص على حب شخص آخر نتيجة للشعور بالحرمان أيام الطفولة، ومنهم من اعتبر أن العاشق كان منبوذاً ومُهمَلاً أيام طفولته (4).
الإدمان والحب:
أما كونُ الحبِّ إدماناً فهو ما أشار إلى مثله المجنون قائلاً:
وقالوا لو تشاءُ سلوتَ عنها فقلت لهم فإني لا أشاءُ
وكيف وحبّها علقٌ بقلبي كما علقت بأرشيةٍ دلاءُ
واعتبر الإدمان على حب ليلى مثل الإدمان على الخمر، وكما يكون الخمر دواءً للمدمن عليه، تكون ليلى دواءً لقيس:
تَداوَيتُ مِن لَيلى بِلَيلى عَنِ الهَوى كَما يَتَداوى شارِبُ الخَمرِ بِالخَمرِ
الحب والإدمان سلوكيان مترابطان. فوجوه الشبه بينهما أنّ في الإدمان على الحب والإدمان على المخدر ألماً مع البعد ومتعة مع الوصال. ويختلف الإدمان على الحب عن الإدمان على المخدرات، في أن الإدمان على الحب يدفع إلى الشوق واللقاء والترابط الاجتماعي، فيزداد مع النأي ويقل عند الوصال، بينما رغبة المدمن على المخدر تستمر، وإن خفت بعد أخذ المخدر فلدقائق، يتوق بعدها إلى كمية أكبر من المخدر. فمخ الإنسان قادر على التحكم في السلوك البشري الطبيعي مثل الأكل. فالجائع يشتهي الأكل ولكن إذا ملأ بطنه تذهب إشارات عصبية وكيماوية إلى المخ، فيعطي المخ إشارات تجعل الإنسان يتوقف عن الأكل، وقد يكره الطعام آنذاك. أما في حالة الإدمان على المخدر فالمفقود هو حلقة الوصل أي الإشارة إلى المخ بأن المدمن أخذ ما يكفي من المخدر، لذلك يستمر المدمن في طلب المزيد من المخدر (5،6).
أما نظرية الشعور بالحرمان أيام الطفولة، أو أن العاشق كان منبوذاً ومهملاً في طفولته، فلم أجد ما يدل على مثل ذلك في قصص المحبين العذريين، بل على العكس من ذلك، كان بعضهم مثلُ قيس بن ذريح يتمتع باهتمام عائلي مبالغ فيه.
وخلافاً لآراء فرويد المصرِّ على أن كثيراً من المشاكل النفسية نابعة من الرغبة الجنسية، فقد أثبتت بحوث علمية حديثة أجريت في مجتمعات إنسانية مختلفة، أن الارتباط أو العلاقة العاطفية مستقلة عن الرغبة الجنسية في الإنسان(7).
ولقد أثبتت دراسة حديثة أن الوقوع في العشق خارج عن سيطرة المرء(8) وهذا الإثبات العلمي يتفق تماماَ مع ما قاله الشعراء العشاق. فقد قال قيس بن الملوح:
تَعَلَّقَ روحي روحَها قَبلَ خَلقِنا وَمِن بَعدِ أَن كُنّا نِطافاً وَفي المَهدِ
فَعاشَ كَما عِشنا فَأَصبَحَ نامِياً وَلَيسَ وَإِن مِتنا بِمُنقَصِفِ العَهدِ
وقد نُسب البيتان أعلاه أيضا لعاشقين عذريين آخرين، وهما قيس بن ذريح وجميل بثينة.
وقال المجنون:
لَها حُبٌّ تَنَشَّأَ في فُؤادي فَلَيسَ لَهُ وَإِن زُجِرَ انتِهاءُ
أعراض العشق في الطب الحديث:
والواضح من أعراض العشق كما ذكرها الأطباء القدامى (انظر فصل: مرضه النفسي)، وكما لاحظنا في أعراض قيس بن الملوح (انظر فصل: أعراض عشق قيس بن الملوح)، أنها شبيهة جداً بأعراض القلق أو الاضطراب العصبي (Anxiety Neurosis) المذكور في كتب طب النفس الحديثة. وخلاصة تلك الأعراض، قلق عصبي يؤدي إلى خوف ورعب، مع أعراض جسمية أهمها ما يلي:
توتر عصبي مزعج، وشعور بازدياد دقات القلب وقوتها، وألم مثل الوخْز الحاد في الصدر لمدة ثوان غير متعلق بمجهود عضلي، ولا يتلاشى الألم بالراحة، بل قد يأتي أثناء الراحة في السرير. يصاحب ذلك الشعور صعوبة التنفس، وعدم القدرة على أخذ نَفَس كاف. كما أن هناك ازدياد سرعة التنفس وشعوراً بالحاجة إلى استنشاق الهواء الطلق. وسرعة التنفس قد تسبب قلوية الدم(9).
ونحن - أطباء القلب - نعرف أن قلوية الدم، بسبب سرعة التنفس مثلاً، قد تسبب انكماشاً في شرايين القلب يمنع التدفق الطبيعي للدم في شرايينه، فتقل كمية الدم المغذي للقلب. وقلة الدم تقود إلى الاختناق المؤلم للقلب وتلفه.
كما أن المحب الذي رفضته محبوبته أو توفاها الله عنه، أو رفضه أهلها وحرموه من وصالها مثل ما حلَّ بصاحبنا قيس المجنون ، يصاب بصدمة نفسية كبيرة سماها الدكتور (روس) المهتم بأمر الحب والعشق "مأساة الحب"(10). وقال إن تلك الصدمة العاطفية تعتبر كارثة مأساوية تؤدي إلى كآبة وقلق وتلهف وتوق شديد للمحبوب، وأحياناً إلى الرغبة في الموت. فهذه الكارثة المأساوية الناتجة عن رفض المحب أو فقد المحبوب، تسبب الشعور بالإذلال والأسى والحزن وعدم جدوى للحياة وفعاليتها.
فالمشاكل العقلية الناتجة عن مأساة الحب وخيمة وخطيرة. ومن الواضح أن بعض الناس معرض لها أكثر من غيرهم لأسباب وراثية أو اجتماعية. فالإحساس بالصدمة المأساوية للحب والتعامل معها، تختلف من شخص لآخر.
وذكر الدكتور (روس) في كتابه "صدمة الحب": أن مأساة الحب تسبب اضطرابات نفسية أخرى كالكآبة وعدم القدرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية. فالمصاب قد يشعر بالوحدة والخجل. كما أن الصدمة العاطفية للعاشق، تجعله غير قادر على الاستمتاع بالحياة والتعامل مع الناس، أو القيام بعمل نافع. وقد يقتل العاشق نفسه. وأغلب ما ذكره (روس) ينطبق على قيس. فهو لم يتعامل مع الناس بل ابتعد عنهم كما قال:
وَلازَمتُ القِفارَ بِكُلِّ أَرضٍ وَعَيشي بِالوُحوشِ نَما وَطابا
لقد أبدى شاعرنا قيس رغبته في الموت حيث قال:
أَلا لَيتَني قَد مِتُّ شَوقاً وَوَحشَةً فَشَوقي وَحُزني لا يَزالُ جَديدُ
أَلا فَاذكُري ما قَد بَقي مِن حُشاشَتي فَقَد حانَ مَوتي وَالمَماتُ أُريدُ(أ)
فهو لا يحزنه ولا يخيفه الموت، ولكن يقلقه ويخيفه البعد عن ليلى:
فَوَاللَهِ ما أَبكي عَلى يَومِ ميتَتي وَلَكِنَّني مِن وَشكِ بَينِكِ أَجزَعُ
وقال (روس) إنّ المصاب غالباً ما يعاني مصيبته منفرداً صامتاً بدون أي عنف، ولكن هناك القليل من العشاق من يضطر إلى العنف والرغبة في العدوان(11).
ولكني لم أجد ما يدل على العنف عند الشعراء العذريين. بل كان شاعرنا المجنون يتقبل تلك المصائب وعذاب الحب بروح العذريين السامية، ويدعي أنه يستلذ بالعذاب من أجل ليلى:
جُنِنتُ بِها وَقَد أَصبَحتُ فيها مُحِبًّا أَستَطيبُ بِها العَذابا
وأضاف (روس) أن ذكريات العاشق الكثيرة تقتحم من ماضيه حاضره، وتؤثر في فكره وتصرفاته أكثر من المتوقع، فتنتج عن ذلك مشاكلُ أخرى، كتجنب علاقة حب جديدة، وقلق وشعور بالبعد عن الواقع، وغضب وقلة النوم(11).
وقد أحس بمثل ذلك قيس حيث قال:
لَيسَ يَخلو أَخو الهَوى أَن تَراهُ كُلَّ يَومٍ يُـلامُ أَو يَتَرَضّى
باكِياً ساهِياً نَحــيلاً ذَليلاً لَيسَ يَهدا وَلَيسَ يَطعَمُ غَمضا
ومن أعراض العشق التي نجدها مكررة في المراجع الحديثة: العزلة وقلة الانتباه وعدم الوضوح في التفكير، وعدم التركيز وقلة الإدراك والشك في قيمة الحياة. وكذلك اضطراب المشاعر واليأس أيضاً(12).
وهذه الأعراض المذكورة في المراجع الحديثة لا تختلف كثيراً عن أعراض العشق المذكورة في المراجع العربية القديمة، مثل عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. وهي نفس الأعراض التي كان المجنون يعانيها (انظر فصل: أعراض عشق قيس بن الملوح). ولقد وجدت في كل تلك المراجع والحالات التي درستها أن أكبر مشكلة صحية تواجه العاشق الذي يعاني مأساة الحب هي الكآبة، لما لها من عواقب وخيمة على الصحة عامة والقلب خاصة.
وقد صاح شاعرنا المجنون الكئيب قائلاً:
أَلا فَارحَمي صَبًّا كَئيباً مُعَذَّباً حَريقُ الحَشا مُضنى الفُؤادِ حَزينُ (ب)
قَتيلٌ مِنَ الأَشواقِ أَمّا نَهارُهُ فَبــاكٍ وَأَمّا لَيلُهُ فَأَنــينُ (ت)
وقال قيس بن ذريح:
وَسَوفَ أُسَلّي النَفسَ عَنكِ كَما سَلا عَنِ البَلَدِ النائي البَعيدِ نَزيعُ
وَإِن مَسَّني لِلضُرِّ مِنكِ كَآبَةٌ وَإِن نالَ جِسمي لِلفِراقِ خُشوعُ
العشق يولّد الكآبة:
تؤكد المراجع الطبية القديمة والحديثة أن العشق يولد الكآبة. وكآبة العاشق مثل كآبة غير العاشق لها آثار سيئة في الصحة. فمن خواص الكآبة الشديدة ما يلي:
1. اضطراب في النوم.
2. قلة الاهتمام.
3. قلة الأكل.
4. الرغبة في الانتحار أو الموت.
5. قلة التركيز.
وأهم عواقب اليأس والكآبة على الصحة هو الانتحار. وفي دراسة لملاحظات تركها منتحرون من الرجال والنساء، تبين أن نسبة انتحار الناس بسبب الحب، أكثر من نسبة انتحارهم بسبب الفشل في أمور أخرى من الحياة(13).
ولقد وجدتُ في دراسة سويدية أن وفيات الدورة الدموية في الذين يعانون الكآبة، تزيد بنسبة 50% عن غير الكئاب. وأغلب وفيات الدورة الدموية وفيات جلطة القلب. فالكآبة تزيد خطورة الجلطة القلبية أربعة أضعاف(14).
وقد عبر قيس عن مثلك تلك المشاعر الكئيبة قائلاً:
تَمُرُّ الليالي وَالشهورُ وَلا أَرى غَرامي لَكُم يَزدادُ إِلا تَمـادِيا
بِيَ اليَأسُ أَو داءُ الهُيامِ أَصابَني فَإِيّاكَ عَنّي لا يَكُـن بِكَ ما بِيا
عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا
والكآبة ليست خطرة على الكئيب لأنها تعرضه للجلطة القلبية فحسب، بل إن الشخص غيرَ الكئيب إذا أصيب بجلطة ثم أصيب بالكآبة بعد ذلك، يتعرض إلى زيادة احتمال الوفاة بنسبة أكبر من غير الكئيب. وبينت دراسة أخرى أن 16% من 222 مريضاً أصيبوا بالكآبة خلال 5 إلى 15 يوماً بعد الجلطة القلبية. وخلال 6 أشهر توفي 17% من المرضى الكئاب، بينما وفيات غير الكئاب لم تزد على 3% فقط(15). وأغلب الوفيات بعد الجلطة القلبية في المرضى المصابين بالكآبة، كادت تكون محصورة في الوفيات الفجائية(16). مما يدل على أن المشكلة الرئيسية في مرضى الكآبة بعد الجلطة القلبية، في رأيي، هو اختلال في انتظام دقات القلب.
وكانت الكآبة من أبرز أعراض مرض قيس التي اشتكى منها كثيراً في أشعاره، مثل قوله:
وَأُمطِرُ في التُرابِ سَحابَ جَفني وَقَلبي في هُمومٍ وَاكتِئابِ
وقوله:
أَلا فَارحَمي صَبًّا كَئيبًا مُعَذَّبًا حَريقُ الحَشا مُضنى الفُؤادِ حَزينُ
الوفيات القلبية بسبب العشق وأعراضه:
لقد مات شاعرنا قيس وهو في سن مبكرة نسبياً، بمرض القلب الناتج عن العشق (انظر فصل: وفاته).
فمن البديهيات المعروفة في الأدب العربي أن الحب قاتل. وهذا ما صرح به شاعرنا قيس قائلاً:
فَلا غَروَ أَنَّ الحُبَّ لِلمَرءِ قاتِلٌ يُقَلِّبُهُ ما شاءَ جَنباً إِلى جَنبِ
فَيَسقيهِ كَأسَ المَوتِ قَبلَ أَوانِهِ وَيورِدُهُ قَبلَ المَماتِ إِلى التُربِ
والواضح أن شاعرنا أدرك أن الحب سبّب له مشكلة في القلب حتى أصبح قلبه المريض مصدر البلاء له كما قال:
لَقَد جَلَبَ البَلاءَ عَلَيَّ قَلبي فَقَلبي مُذ عَلِمتُ لَهُ جَلوبُ
فَإِن تَكُنِ القُلوبُ كَمِثلِ قَلبي فَلا كانَت إِذاً تِلكَ القُلوبُ
ولكنه كان يتكلم عن القلب كمركز للحب والعواطف كما كان يُعتقد آنذاك. فكان يعتقد أن القلب يعاني مشكلة نفسية، وهي الحزن وعذاب الفراق كما قال:
فَيا قَلبُ مُت حُزناً وَلا تَكُ جازِعًا فَإِنَّ جَزوعَ القَومِ لَيسَ بِخالِدِ
فَيا أَسَفا حَتّام َ قَلبي مُعَذَّبٌ إِلى اللَهِ أَشكو طولَ هَذي الشَدائِدِ
فالشوق للمحبوب مشكلة القلب عنده كما قال:
وَلي فُؤادٌ يَكادُ الشوقُ يَصدَعُهُ إِذا تَذَكَّرَ مِن مَكنونِهِ الذِّكَرا
لم يدرك قيس ولا العرب الأوائل أن وفيات العشاق المبكرة كانت تتم بمرض عضوي حقيقي في القلب، وهذا ما كشفه العلم الحديث في الطب الآن. فهناك دراسات علمية عديدة تربط العشق ونتائجه بالوفاة. فالأعراض النفسية الناتجة عن العشق، كالغضب والحقد والانعزال والقلق والضغط النفسي والتوتر والكآبة، تشكل خطورة جسيمة على القلب. فالقلق يزيد وفيات أمراض شرايين القلب ثلاثة أضعاف(17).
والقلق الشديد عند مرضى القلب المصابين بالجلطة القلبية، يرفع خطورة تكرار الجلطة أو الوفاة خمسة أضعافها عند مرضى الجلطة غير المصاحبة بالقلق(18).
لقد وجد ازدياد طول فترة كهربائية (QT interval) في تخطيط قلب المرضى المصابين بالقلق. وازياد تلك الفترة الكهربائية تدل على قابلية القلب للاضطرابات الكهربائية المتمثلة بالخفقان عند المصابين بالكآبة(19).
العشق والإفرازات الكيماوية في الجسم:
يتعامل جسم الإنسان مع بيئته الاجتماعية أو محيطه الخارجي أو الداخلي (النفسي)، بإفرازات كيماوية تؤثر فيه تأثيراً فسيولوجياً متفاوتاً من شخص إلى آخر، حسب تأثير تلك المواد في الدماغ أو القلب أو الأعصاب.
ولقد وُجد أن للعشق تأثيراً على مركز معين في الدماغ. فبتصوير دماغ 17 عاشقاً وعاشقة باستعمال الرنين المغناطيسي (fMRI) أثناء تمعن العاشق بصورة المعشوق، قد وجد أن هناك تأثيراً في بقعة معينة في الدماغ(20).
فالسر في خطورة الكآبة أنها تسبب زيادة في إفرازات عصبية لمواد كيماوية (الكتاكول أمين). تلك المواد تسبب الكثير من أعراض العشق المذكورة أعلاه، وترفع سرعة دقات القلب وضغط الدم والحاجة للأكسجين. كما تسبب خللاً في انتظام دقات القلب، وتزيد التصاق الصفائح الدموية الممهدة لتجلط الدم الخطير. وقد لوحظ في الذين يعانون الضغط النفسي الدائم اختلال في تجلط الدم، وزيادة التصاق الصفائح الدموية. كما أن تلك المواد (الكتاكول أمين) تزيد احتمالات اضطرابات القلب المميتة في مرضى شرايين القلب.
لقد بينت دراسة حديثة تمت في جامعة (جون هبكن) الأمريكية، أن الانهيار العاطفي أو "القلب المحطم" يسبب ضعفاً وفشلاً مفاجئاً في عضلة القلب، مثل الفشل الناتج عن الجلطة القلبية. والسبب في ذلك أن الصدمة النفسية الحادة تسبب إفرازات كثيرة لهرمونات جسمية أهمها (الأدرلين)، الذي يضخ في الدم بشدة قد تصل إلى مستوىً أعلى من المستوى الطبيعي بـأربع وثلاثين مرة، فيصعق القلب وتضعف قوة عضلاته، فيعجز عن ضخ الدم بصورة طبيعية. ويحس المريض بألم في الصدر وضيق شديد في التنفس، مثل إحساس المرضى المصابين بانسداد في شرايين القلب، مع أن شرايين أصحاب "القلوب المحطمة" التي أجريت عليهم الدراسة سليمة قبل ذلك(21). وقد وصف لنا قيس ذلك الإحساس بألم في الصدر وضيق التنفس عندما قال:
كأنَّ فؤادي في مخاليبِ طائرٍ إذا ذُكرت ليلى يشدُّ به قَبضـا
كأنَّ فِجاجَ الأرضِ حلقةُ خاتمٍ عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا
لقد اكتشِفتْ حديثأً العَلاقة بين العشق وإفراز موادَّ كيماويةٍ، تؤثر في سلوك العاشق وأعراضه. ففي سنة 2003 نشرت دراستان مهمتان جداً حول هذا الموضوع. فالدراسة الأولى أثبتت وجود علاقات بين مركبات كيماوية (Neuropeptides) في الجسم، ومراحل مختلفة من الجاذبية والغرام بين الناس(22).
أما الدراسة الثانية ففي غاية الأهمية لأنها ألقت الضوء على بعض خفايا العشق. وخلاصة استنتاجاتها أن غدة الهايبوثلاموس (Hypothalamus) في مخ الإنسان (الدماغ) تفرز مواد كيماوية، تؤثر في القلب والأعصاب. لذلك فإن تلك الغدة تفرز في الشخص الذي عنده استعداد فطري لأن يصاب بالعشق، مادة الدجاكسون (Digoxin) بنسبة أقل ومادة الكاتوكول أمين والمورفين (Catacholamines and morphine) بنسبة أعلى من الشخص الذي ليس لديه الاستعداد لأن يصاب بالعشق(23).
هذا الاكتشاف يفسر ازدياد سرعة ضربات قلوب العشاق بسبب ازدياد مادة (الكاتوكول أمين). والمورفين (morphine) مادة مخدرة قد تفسر لنا أن المصاب بالعشق لا يحس بالألم العضوي كحرارة النار وجرح اليد، اللذين ذكرتهما في قصة مجنون ليلى، أو أن العاشق بسبب إفرازات جسمه من المادة المخدرة يحس بالألم بدرجة أقل من غير العاشق.
والغريب أن الدراسة المذكورة أعلاه(23)، وجدت أن العشق يندر في الأشخاص الذين تكون لديهم الهيمنة للجهة اليمنى من الدماغ، أي أن العشق يكاد يكون مقصوراً على من ليده اليمنى الغلبة على اليسرى خِلقةً. فهو يأكل باليد اليمنى منذ نشأته. أما الأعسر الذي يفضل استعمال اليد اليسرى منذ طفولته فيندر أن يصبح عاشقاً.
أما مادة الدجاكسن (Digoxin) التي يقل إفرازها في العاشقين، فهي مادة كيماوية تستخرج من نبات يسمى قفاز الثعلب (Foxglove) له أزهار جميلة. وقد أطلق الإنجليز ذلك الاسم على هذا النبات بسبب أسطورة إنجليزية تقول: إن الثعلب كان يغمد رجله ويغلفها بأزهار ذلك النبات قبل أن يغير على دجاج الحقول، حيث إن ذلك النبات كان ينمو في مناطق تكثر فيها الثعالب. وقد زرعتُ قفاز الثعلب مرة في حديقة منزلي في الدوحة لجمال أزهاره، ثم توقفت عن زراعته لعلمي أنه نبات سامّ جداً للإنسان والحيوان. ولكن المادة المستخرجة منه (Digoxin) تستخدم منذ قرون في علاج ضعف عضلات القلب أو اختلال انتظام دقات القلب السريعة. ولا زلنا نصرف هذا الدواء لكثير من المرضى. ولأول مرة يكتشف أن غدة في الجسم تنتج هذه المادة. وحبذا لو أقيمت على هذا الدواء دراسات وتجارب جديدة لاكتشاف تأثيره في العشاق. فقد يكون مناسباً لعلاج حالات العشق التي عسر علاجها.
شرح المفردات:
أ. الحشاشة: بقية الروح في المريض.
ب. الصب: العاشق المشتاق، والصبابة رقة الشوق وحرارته.
ت. الحَشا: ما دون الحجاب مما في البطن كله، وقيل ظاهر البطن أو الخصر، وقيل ما انضمّت عليه الضلوع.
المراجع:
-
GROSSMAN A. H: Depression and the course of coronary artery disease. Am. J Psychiatry 1998; 155:4-11
-
Span J Psychol. 1999 May;2(1):64-73.
-
H.F Kapland: Comprehensive Textbook of Psychiatry/V Vol.1 Fifth Edition. P.367.
-
Small DM, Zatorre RJ, Dagher A, Evans AC, Jones-Gotman M. Changes in brain activity related to eating chocolate: From pleasure to aversion. Brain 2001; 124:1720–33.
-
Nestler EJ. Molecular basis of long-term plasticity underlying addiction. Nat Rev Neurosci 2001; 2:119–28.
-
Psychol Rev. 2003 Jan;110(1):173-92.
-
J Marital Fam Ther. 1997 Jul;23(3):295-307.
-
A.M. Freedman: Modern Synopsis of Comprehensive Textbook of Psychiatry /11 – The Williams and Wilkins, 1976, P.610
-
. Rosse, Richard (2000). An Argument for Love Trauma Syndrome: An Important and Often Underrecognized Form of Traumatic Grief. [Online]. Perspectives –vol. 5, no. 1 [2000, February 1] http://www.mentalhelp.net/poc/view_doc.php?type=doc&id=400&cn=0&clnt%3Dclnt00001&
-
. THE LOVE TRAUMA SYNDROME. Free Yourself From the Pain of a Broken Heart. by Richard B. Rosse, M.D.
-
J Psychol. 2002 Sep;136(5):573-6
-
Weeke A: Causes of death in manic-depressive, in origin, prevention and treatment of affective disorders. Academic press, 1979, pp 289-299
-
Frasure-Smith N et al: Depression following myocardial infarction: impact on 6 months survival. JAMA 1993: 270:1819-1825
-
Frasure-Smith N et al Depression and 18 months prognosis after myocardial infarction. Circ. 1995; 91:999-1005
-
Januzzi J.L. et al: The influence of anxiety and depression on outcomes of patients with coronary artery disease. Arch. Intern. Med. 2000; 160:1913-1921.
-
Psychosom MED. 1996;58:395-401
-
. Psychosomatics. 1996;37:31-37
-
. Neuroreport 200 Nov 27,11 (17),3829-34
-
. Neurohumoral Features of Myocardial Stunning Due to Sudden Emotional Stress; NEJM 2005: 352: 539-548
-
. J Endocrinol Invest. 2003;26(3 Suppl):58-60
-
Int J Neurosci. 2003 May;113(5):721-9