top of page

المقدمة

 مجنون ليلى بين الطب والأدب

لقد كتب الكثيرون عن قصة مجنون ليلى في الأدب العربي منذ العصر الأموي حتى اليوم. وشكك البعض في صحة وجود شاعر عاشق في العصر الأموي اسمه قيس بن الملوح. فلماذا يتجرأ واحدٌ مثلي على خوض مثل هذا البحر الواسع؟ وماذا عسى أن أقدم للقارئ من معلومات لم يتطرق لها من سبقني؟ الجواب على ذلك هو أنني سأسبح في بحر ألفته، وهو الطب، حاملاً معي معلومات وتقنيات تساعدني في الغوص إلى أعماقه، أتمعن في درره ولآلئه، مستعيناً بميولي الفطرية إلى الشعر والأدب منذ طفولتي. مسخراً معرفتي المهنية، وهي الطب، في دراسة أشعار تعبر عن أعراض جسدية ونفسية لأمراض واضحة قد لا يدركها غير أديب متخصص في الطب أو طبيب متعمق في الشعر والأدب. ومن ذلك المنطلق شرعت في تشخيص أمراضٍ أصيب بها ذلك الشاعر العاشق المجنون قيس بن الملوح، وبالأخص أعراض تصلب شرايين القلب الذي أودى بحياته. وقد كتبت تمهيداً شعريًّا لمشروع دراستي تلك قلت فيه:

 

تقلبَ  القلبُ   بينَ الطبِّ  والطربِ        مُذْ قمتُ  أجمعُ  بين العــلمِ  والأدبِ

فلن  يضرَّ  طبيباً   فحصُ   أفئـدةٍ        نالتْ  من العشقِ أصنافاً من الكرَبِ

قد يكشفُ الشعرُ للمختصِّ معضلةً        غابت عن الفهمِ  آلافاً  من  الحِـقَبِ

قد يفخرُ الطبُّ إن أعلنتُ  مكتشـفاً        سرَّ العلاقةِ  بين  العشقِ   والعطبِ

وقمتُ    أشـرحُ   أشـعاراً    مُفنِّــدةً         أسبابَ  موتٍ  لعشاقٍ  من  العـربِ

 

لقد سمعت قصة قيس وليلى أول مرة عندما كنت في السابعة من العمر ولم أكن أعرف القراءة بعد، فقد كانت جارتنا "عفراء" رحمها اللّه وعمتي تتبادلان القراءة في ضوء مصباح الكيروسين (الفنر). كانتا تقرآن القصص على النساء مساءً، فينام من حضر من الأطفال بعد دقائق. وكنت أنام أثناء قراءة قصص ألف ليلة وليلة والزير سالم  وعنترة بن شداد، ولكني كنت مستمعاً جيداً لقصة مجنون ليلى، وكنت أتابع وقائعها وسماع أشعار بطلها بتيقظ واهتمام وتفاعل، حتى أذكر أن الدموع سالت من عينيّ تأثراً ببعض أشعار قيس الحزينة، ولم أنجح في إخفاء دموعي عن النساء، فوقعت في إحراج شديد، وخاصة عندما قلن لأمي: "سيصبح ولدكِ عاشقاً!".

 

ولقد وصفت الحادثة في قصيدتي المطولة عن ذكريات الطفولة (لامية الخليج) (1)، ومنها قولي:

ولمّا  بَكى   قيسٌ   بكيتُ    لحالـهِ           وقد أُرغمتْ  ليلاهُ   قهراً   عـلـى  بعْلِ

فسالتْ   دموعي   لــوعةً    وتَفطُّراً           لأنَّ  لهيبَ  العشقِ   يا ويلَه   يُصـلي

وقد لاحظتْ  بَعضُ  النساءِ بمُقلتي           دُموعاً  لوقعِ  الشعرِ  تطفحُ   كـالسيلِ

وقالت لَكِ  النسوانُ:  يا  أمَ  عاشقٍ           صغيرُكِ ذو عشقٍ وما العِشقُ  للـطفلِ

فلم تُنصفِ النسوانُ إحساسَ  شاعرٍ           بآلامِ  عشَّاقٍ   بكتْ   عينُهم    قبـلي

وما ضَرَّني  لو كُنتُ  أعشَقُ مثلَهم            خَيالاً  أُناجيهِ   يعلِّــمُ     أو   يُـســلي

 

لا زلت أتذكر تلك الحادثة كلما قرأت قصة قيس وليلى. ولقد قرأت القصة عدة مرات منذ طفولتي في كتب مختلفة من كتب الأدب (2-12). وأدركت أن الرواة قد بالغوا في رواياتهم وأضافوا زيادات واختلقوا حوادث للإثارة والتشويق.

وإني أشعر بشيء من الأسف على أن التطور والرقي في الخليج خلال الفترة التي مضت منذ طفولتي إلى اليوم، قد أثّر في مجتمعنا، فتغيرت الظروف الاجتماعية وزالت جلسات النساء لقراءة القصص الأدبية. أمّا أطفالنا فأعرضوا عن قراءة روائع الأدب العربي، كقصص الحب العذري عند العرب التي تربي في نفوس الأطفال الفضيلة والأخلاق الحميدة. وقد انصرف النشء في عصرنا هذا لوسائل الترفيه المرئية وابتعد عن القراءة عامة وقراءة مثل هذه القصص خاصة. وإني أتمنى لو وُضع بعضُ قصص الحب العذري عند العرب في المناهج الدراسية لأطفالنا.

لقد وصف الدكتور شوقي ضيف الحب العذري بأنه: "حب حقيقي عاشه العرب في عصورهم الإسلامية الأولى، حب ليس فيه إثم ولا جناح ولا فسوق ولا حرج ولا خيانة ولا عار ولا خطيئة ولا ريبة، إنما فيه الوفاء والصفاء والعفاف والطهر والنقاء. وفيه كان يحتفظ المحبون بكرامتهم مهما ألح عليهم الحب، وتحتفظ الفتاة بجلالها ووقارها مع رقة العواطف ورهافة المشاعر" (8).

لقد أصبحت قصة مجنون ليلى مثالاً لقصص الحب العذري الرفيع تناقلها العرب جيلاً بعد جيل. وأصبح مجنون ليلى عَلَماً أسطوريًّا من أعلام العشق بل العاشق المثالي الذي يعرفه العربي، الأمي والمثقف. وصار عشقه مثالاً رفيعاً من أمثلة العشق الصادق الطاهر البريء. ومن أروع ما قاله قيس بن الملوح في العفة:

 

أحبّك  يا ليلى  على  غـير  ريبةٍ        وما خيرُ حبٍّ  لا تَعِفُّ ضمائره

 

وقوله:

 

يجيشون في ليلى عليَّ   ولم أَنَلْ       مع العذلِ من ليلى حراماً  ولا حِلاّ

سوى أن حبًّا   لو تشاء    أقلّها       ولو  تبتغي   ظلاً  لكان لها  ظلا

ألا حبّذا  أطلالُ ليلى على البِلا       وما بذلت  لي من  نوالٍ  وإن قلاّ

 

وقوله:

 

وَوَاللهِ ما أَحبَبتُ حُبَّكِ فَاعلَمي       لِنُكرٍ وَلا  أَحبَبتُ  حُبَّكِ  مَأثَما

مُنَعَّمَةٌ  تَسبي الحَليمَ  بِوَجهِها       تَزَيَّنُ   مِنـها   عِفَّةً    وَتَكَرُّما

 

 لقد فكرت في الكتابة عن وفاة امرئ القيس بن حُجر مسموماً كما قيل. وبعد أن درست أشعاره وما كتب عنه وجدت صعوبة في التأكد من الأحداث. وهناك من ينكر الكثير من أشعاره وقصة ذهابه إلى قيصر الروم واغتياله بالسم. وقيل إن هناك ستة عشر شاعراً باسم امرئ القيس، اختلطت أشعارهم على الرواة مما جعلهم ينسبونها إلى شاعر واحد. ولكن لا ينكر أحد أن هناك شخصية تاريخية لابن ملك اسمه امرؤ القيس بن حجر. وأهم ما احتفظت به الكتب التاريخية القديمة عن الأمم هي سلالات الملوك وما دار حول عصورهم. أمّا شاعرنا، مجنون ليلى، فلم يكن ملكاً ولا ابن ملك. لذلك ليس هناك مثل تلك الأهمية التاريخية للإصرار على وجوده. ولكن قصة حبه لليلى من أروع قصص الحب في الأدب العربي، ولو صدقنا من ادعى أنها موضوعة ولا أصل لها، فإنّ ذلك لا يقلل من أهميتها الأدبية. لقد روى القصة عدة رواة في العصر الأموي وبداية العصر العباسي، أي في فترة زمنية قريبة من الفترة الزمنية التي يفترض أن القصة قد وقعت فيها. لذلك فإنها كانت تعبيراً عن حالة اجتماعية مقبولة من الناس في ذلك العصر ولم يستبعدوا حدوثها آنذاك.

وأنا أميل إلى تصديق وجود شاعر عشق فتاة حرم منها في أوائل سنين الإسلام أو أيام العصر الأموي، فانطلق يتأسى بأشعار الحب الرقيقة التي خلدت عبر القرون. وإنه من المهم جدًّا أن أذكر أن وصف الشاعر المجنون (قيس) لأعراض مرض شرايين القلب في إحدى قصائده التي سأذكرها فيما بعد، أدق وصف عُرف في تاريخ الطب العربي والعالمي لذلك المرض حتى القرن الثامن عشر. ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثل ذلك الوصف من خيال. أي إني أجزم بحكم معرفتي المهنية كطبيب أمراض قلب، أن الذي كتب الأبيات كان يعاني مرض قلب حقيقيًّا سواء كان اسم ذلك الشاعر قيساً أو عمراً. ولكن لا بد أن نتشبث الآن باسم قيس بن الملوح لأنه الاسم الذي اشتهر به في الأدب العربي، وعرف له ديوان بذلك الاسم. ومن الصعب علينا الآن بعد مضي أربعة عشر قرناً على عصره، وانتشار قصائده في كتب الأدب العربي الشهيرة والمنسوبة إليه بالاسم أن نقبل بأن قصته وأشعاره موضوعة. وذكر أبو منصور الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) أن مجنون بني عامر وهو قيس بن الملوح صاحب ليلى، يضرب به المثل في الحب، وهو أشهر، وشعره أسير، من أن ينبه عليهما؛ ومن أحسن ما يروى له قوله:

 

وأدنيتني  حتى إذا  ما  سبيتني           بقولٍ يحل  العصم سهل  الأباطحِ

تجافيت عني حين ما لي حيلة           وغادرت ما غادرت  بين  الجوانحِ

 

وقبل أن أبدأ البحث والمناقشة، سأسرد أهم وقائع قصة مجنون ليلى حتى يتمكن القارئ من متابعة مناقشتي للقصة ووقائعها. وما يهمني في نهاية المطاف من هذا البحث ليس مناقشةَ التفاصيل المختلفة لقصة قيس وليلى والخلافات الكثيرة في حقيقة الروايات والزيادات عليها، ولكن ما تعلّق منها بصحة قيس، صحته الجسمية والعقلية، وهل كان قيس مجنوناً حقًّا؟ وهل أصيب بمرض عضوي في قلبه؟ وما سبب وفاته؟

ولكون هذه الدراسة مرتكزةً بالدرجة الأولى على أشعار قيس بن الملوح، أو المنسوبة إليه، وتحليلها واستنباط ما فيها من أفكار وانطباعات، فإني سأسهب في ذكر أشعار قيس مع سردي للقصة ووقائعها، ثم سأعود لمناقشة بعض الأبيات في الفصول اللاحقة. فقصة مجنون ليلى خلدتها أشعار المجنون الرقيقة والمؤثرة. لذلك فسأستعرض أشعاره استعراضاً وافياً في جميع الفصول، حيث إن الأشعار تكشف الأفكار وطبيعة الحياة عند العرب خاصة قبل الإسلام وأوائل العصر الإسلامي عندما كان التدوين نادراً، ونقل الأخبار والروايات يعتمد على الذاكرة والنقل الشفوي. فحفظ الشعر ونقله أسهل من حفظ النثر. فالشعر آنذاك هو سجل حياة العرب وحضارتهم ومعتقداتهم وتاريخهم. وهو أرقى فنون العرب التي تفاخروا واعتنوا بها.

وقد ذكر ابن رشيق أن ابن عباس قال: إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً. وقيل: "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين" (13).

وقال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: "لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيّامها ووقائعها إلاَّ من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها".

ومع أن المستشرقين اعتنوا بآداب العرب وصنفوا كتباً فيها، فإنهم لم يتمكنوا من الغوص في أشعار العرب مثلما قام به العرب أنفسهم. فالأشعار ليست ألفاظاً يترجمها المعجم فحسب، ولكنها أحاسيسُ ومشاعر إنسانية لا يمكن أن يدركها إلا من كانت العربية لغته التي رضعها في مهده وتغنى بها في أنسه ووحشته.

ولقد تمتعت وأنا أمعن وأكرر قراءة أشعار المجنون لغرض كتابة هذا البحث. ولا أنكر أن بعض الأبيات الرقيقة سيطرت عليَّ بألفاظها الجذابة ومشاعرها الجيّاشة، فأسرتني وجعلتني أُسهب في نقلها للقارئ كلما وجدت فرصة مناسبة. والواقع أنه ليس في أشعار الحب عند العرب أجمل وأرق وأمتع من أشعار مجنون ليلى التي سنستعرضها في الصفحات التالية (قريباً إن شاء الله).

 

المراجع:

  1. ديوان حجر: لامية الخليج، الطبعة الثانية، 2004.

  2.  الأصفهاني: كتاب الأغاني – دار صادر، 2002م.

  3. داود الأنطاكي: تزيين الأسواق في أخبار العشاق، الطبعة الثانية، 1986م – دار ومكتبة الهلال – بيروت.

  4. ديوان قيس بن الملوح (مجنون ليلى) رواية أبي بكر الوالبي- دار الكتب العلمية – بيروت 1990.

  5. ابن طولون: بسط سامع المسامر في أخبار مجنون بني عامر، تحقيق محمد إبراهيم سليم – مكتبة ابن سينا- القاهرة 1994.

  6. عبد المجيد زراقط: عشاق العرب – دار البحار- بيروت، 1987م

  7. الحب الخالد: قيس وليلى – دار الكتب العلمية- بيروت.

  8. شوقي ضيف: الحب العذري عند العرب- الدار المصرية اللبنانية، 1999م.

  9. جورج غريب: قيس بن الملوح مجنون بني عامر –دار الثقافة – بيروت، 1985.

  10. كمال مصطفى الشيبي: الحب العذري – دار المناهل –بيروت ، 1997م.

  11. عبد الأمير مهنا: شهداء العشق – دار الفكر اللبناني –بيروت، 1990.

  12. إبراهيم موسى سنجلاوي: الحب والموت في شعر الشعراء العذريين في العصر الأموي – منشورات مكتبة عمّان، 1985.

  13.  ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه.

bottom of page