وداعـاً إلى الأبـد
بعد فوزي بمسابقة القصة في مدرسة المتنبي المتوسطة سنة 1959 كتبت هذه القصة الخيالية القصيرة سنة 1961 بينما كنت طالباً في الكويت في الصف الأول الثانوي (يعادل الثالث الإعدادي في قطر). وقد كتبتها في المستشفى حيث كنت مريضا بالتهاب الغدة النكفية (Mumps). حجر
مـــقدمـــة
بقلم الطالب: الشيخ سعود بن كائد القاسمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان والحياة عاملان متفاعلان، كل له تأثيره على الآخر، والإنسان مرآة لحياته ومعبر عما يختلج في أعماقها من واقع، وقد يمزج الحياة بخياله ويصوغ من الواقع والخيال شيئاً جديداً.
ولعل هذه المحاولة التي تسرد أمام القارئ صورة صادقة لواقع الحياة وإبداع الخيال ولعلها محاولة إلى نتيجة وتجربة إلى نجاح .
والقصة كما قرأتها وفهمتها صورة صادقة لواقع أليم يترك في النفس مرارة وفي القلب حزناً فهي من وحي المجتمع المتأرجح بين النجاح والإخفاق، السابح في بحر الجهل والأنانية والتعصب.
والقصة كما قرأتها وفهمتها مأساة من مآسي المجتمع، مأساة فتاة وشاب طلبا الحياة السعيدة والعيش الهنيء على بساط الحلال الإنساني. كان يجمعهما الحب . . . الحب الطاهر البريء . . الحب الذي خلق للحياة وخلقت الحياة له.
ولكن كانت المأساة التي ذهبت ضحيتها فتاة أحبت للزواج. وفتى ذبح على مذبح الحب. ذهبا ضحية تعصب أب أحمق، رأى المادة خيراً من روح الحب، فضحى بحبها في سبيل المادة. ■
القـصـــة
(1)
أمسى الناس في إحدى الليالي وإذا قرية معيريض تموج وتمرح، وكانت القرى القريبة تسمع رنين الطبول ودوي البنادق، فتعرف أن هناك فرحاً، فتفد إلى معيريض للتسلية والطعام. وكان كل من بيتي العروسين يمتلئ بالناس فيصطفون خارجه.
كانت النساء تغني وتزغرد والبدو يرقصون رقصات شعبية مختلفة، ويقوم أهل الحي بألعاب كثيرة ومتنوعة. وفي غمرة هذه الأفراح كان هناك شخص يبكي ويتعذب، كان يسمع رنين الطبول فيشعر كأن كل رنة سكين تغرز في قلبه. إنها فتاة لم تشعر طوال هذه المدة إلا بالأسى والحزن، وقد ألبسوها الحلي والجواهر الثمينة فلم تعبأ بها. وكانت تربط على صدرها فوق قلبها ورقة تسللت بها إليها خادمة صغيرةً. وكان مكتوباً فيها (وداعاً إلى الأبد).
ولما حان موعد الزفاف في ساعة متأخرة من الليل جاءتها النساء وسحبنها على كره منها وهي تبكي وأمها تبكي، فتظن النساء أن الفتاة تبكي لفراق أمها. ولا يعرف أحد في معيريض سر بكائها إلا أمها.
(2)
لما أدخلتها النسوان عليه ورأته، إذا هو شاب وسط بين القصر والطول، له شفتان غليظتان وأنف قصير وعينان واسعتان. قام ليقترب منها فصرخت في وجهه ودفعته بقوة ولكنه لم يعبأ بها، فقد كان هائجاً كالثور.
ومضت الأيام والسنون فلم تجد المسكينة للسعادة طعماً وزادت حياتها على مر الأيام جحيماً لا تطاق، فحزنت عليها أمها حزناً شديداً حتى مرضت وفارقت الحياة. وبذلت الفتاة عدة محاولات كي تندمج في حياتها الجديدة لكنها فشلت. وكانت تشعر كلما رأت زوجها كأنه وحش مفترس مع أنه بذل جهداً كبيراً في الصبر على كرهها له. وكثيرا ما كان النزاع ينشب بينهما لأتفه الأسباب مع أنه لم يرفع يده عليها قط حتى ضاق بها ويئس من إصلاحها فتزوج امرأة أخرى.
وعجيب أمر المصادفات، تلقي لبعض الناس أشياء نادرة بسهولة ويسر، ولو أنه بحث عنها في جميع أقطار الأرض ما وجدها. إنها تخرج من الشر خيراً ومن السم بلسماً.
وهكذا ألقت الصدف لهذه الزوجة الحزينة بضرة صالحة تسمى سعيدة، تحس بآلامها وتعطف عليها وتحاول أن تشعرها بالسعادة والسرور ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. كانت سعيدة تعرف فاطمة أيام طفولتيهما لأنهما كانا من حي واحد. كانتا تلتقيان عندما تتزاور والدتاهما فتلعبان معاً ساعات طويلة. كانتا تصنعان دميتان أطرافهما من قطع صغيرة من جريد النخيل ربطت بخيوط صغيرة. ثم تضعان عليهما الثياب الملونة. ثم تقوم كل واحدة منهما بتحريك دميتها نحو الدمية الأخرى وتجعلانهما تتعانقان وتمشيان معاً على الرمل وتتبادلان القصص ونوادر الأطفال. وكانت كل منهما تتحدث بالإنابة عن دميتها حتى تنادي إحدى الوالدتين بأن وقت الانصراف قد حان. ولكن سعيدة انتقلت مع والدتها إلى جوار بيت خالها في الحي الجنوبي بعد وفاة والدها مما قلل فرص اللقاء واللعب معاً بعد ذلك. كانت سعيدة وفاطمة تلتقيان في الأعياد فقط بعد ذلك.
ولقد سمعت سعيدة عن حزن وكآبة فاطمة بعد أن أرغمها أبوها على الزواج من جاسم. كما علمت عن صبر جاسم عليها وعدم الإساءة إليها. فلما قرر عم سعيدة قبول عرض جاسم بالزواج من بنت أخيه ووافقت أمها وخالها على ذلك لم تعارض سعيدة، بل قالت لأمها سأكون لفاطمة أختاً لا ضرة.
لقد فرحت فاطمة بقدوم سعيدة، صديقتها القديمة كزوجة ثانية لزوجها. صارت سعيدة تقص على فاطمة القصص والنوادر وتحدثها عن حياتها وحياة أهلها حتى تعلقت فاطمة بها كما كانت أيام طفولتيهما، ووجدت في قربها تنفيساً وتخفيفاً لآلامها.
(3)
جلست فاطمة يوماً ترضع طفلتها آمنة التي مضى على ميلادها شهر، فدارت في رأسها ذكريات الماضي فاغرورقت عيناها بالدموع. ومع كره فاطمة لزوجها إلا أنها أحبت ابنتها كثيراً، ووجدت في العناية بها أحياناً انشغالاً عن التفكير بمشاكلها الشخصية وشجونها. ولكن صار ينتابها القلق والخوف على مصير ابنتها عندما تكبر. هل سيظلمها المجتمع ويقسو عليها كما ظلم أمها. خوفها على ابنتها زادها حزناً وبكاءً.
ودخلت عليها سعيدة فجأة وهي على هذه الحال فتألمت لحالها وسألتها بصوت فيه عطف حنان:
- ماذا يبكيك الآن يا فاطمة؟
فأجابت بصوت ضعيف:
- لا شيء يا عزيزتي، إنما هي ذكريات الطفولة والصبا والخوف من المستقبل على هذه الطفلة البريئة.
- بالله عليك ألا تحدثينني عن أشجانك وتشركين أختك بأسرار حزنك فتريحين نفسك من آلامها!
- إنك صادقة يا عزيزتي فآلامها ثقيلة على نفسي. ولكن لا أعرف من أين أبدأ بالحديث عنها. . . آه على أيام مضت وأحلامٍِ وئدت. إني أذكر ليلة من ليالي الصيف، سأبدأ بها لأنها طيفها يعاودني كلما سرحت في الماضي..
(4)
كانت ليلة صيفية جميلة تبعث السرور في النفس حتى ليخيل للإنسان وهو يرى منظر النخيل البديع والأغصان المتمايلة في ضوء القمر الجميل كأنه أمام منظر خيالي أو لوحة أبدعتها ريشة فنان ماهر.
كان أحمد قد تعود إذا ما هدأ الليل أن يتسلل بين النخيل لينتظرني في بطن الوادي الكبير، ولكنه يجلس في تلك الليلة ويطول به الجلوس وينفد صبره فيقوم ويخطو بضع خطوات ثم ينظر إلى الطريق الذي تعودت أن آتي منه فيراه طريقاً خالياً، فيستبد به القلق والحيرة ويؤول تأخري عدة تأويلات ثم يقول في نفسه "لعل سبب تأخرها أنها أرسلت إلى مكان ما فتعود بعد قليل". ثم يجلس على صخرة صغيرة رافعاً بنظره إلى النجوم المتلألئة فيسرح تفكيره في ذكريات جميلة. يذكر منها عندما كان طفلاً يلعب معي ألعاباً بريئة، يتذكر أشياء كثيرة من براءة طفولتنا وشيطنتها فيضحك منها. يتذكر مرة أنني ضربته بحجر صغير من غير قصد فجرحت رأسه وسال بعض الدم. ثم يتذكر عندما منعني والدي من الخروج والتكلم مع الصبيان لأنني أصبحت كبيرة. كنت أختلس الفرص وأبحث عنه حتى أجده فأجلس للتحدث معه.
لم نكن نعرف لمَ لا نستطيع الصبر بعضنا عن بعض طوال هذه المدة؟ ولم أدري لم لا أميل إلى أي فتى غيره؟
وفيما هو سارح في أفكاره، تناهى إلى سمعه من بعد خشخشة الحشائش فأصاخ سمعه ليعرف جهتها، ثم قام ورأى شبحاً أسود يتحرك في ظلال شجر الغاف، فظن أني قادمة أتخفى في الظلال كي أفاجئه بمقدمي. فخطر له أن يقوم هو بمفاجأتي. فنهض سريعاً واختفى خلف شجيرات صغيرة ليخدعني ويوهمني بأنه لم يأت، حتى إذا هممت بالرجوع يخرج إلي. جلس في مخبئه ينصت إلى صوت الأقدام وهي تقترب نحوه. ولما دنا الشبح من الوادي تبين له أنها بقرة . . فاشتاط غيظاً وقام يرمي البقرة بالحصى ليطفئ غيظه فولت البقرة هاربة بسرعة . .
(5)
استيقض أحمد قبل شروق الشمس على صوت المنجور في نخلهم قبل أن يوقضه والده للصلاة. فتوضأ وصلى الصبح ثم دخل النخل وجلس قرب حوض الماء يفكر فيَّ وفي غيابي الليلة السابقة. ولكن البيدار قطع عليه تفكيره. فقد جاءه برطب لذيذ خرفه من نخلة لولو، فشكره وتحدث إليه. لما رجع البيدار يسقي النخل صار يراقبه. كان ينزل بالثور الساحب لحبال الدلو داخل حفرة الخب بمهارة وصبر. وكان الثور يطيع البيدار ويسير معه نزولاً وصعوداً حسب إشارته. فيرتفع الدلو من قاع البئر وهما نازلان يشدان الحبال، ويتم تفريغ الدلو عندما يقف الثور في أنزل المدى، ثم ينزل الدلو في البئر مع رخي الحبال وهما صاعدان. شعر أحمد وكأن الثور في طرب لصوت بكرة المنجور الخشبية الكبيرة وهي تدور تحت حبل الدلو الذي يسحبه، باعثة صوتاً موسيقياً مميزاً يسمع مئات الأمتار حول زريبة النخل. اقترب أحمد من البئر ورأى الماء وهو يبعد حوالي 15 متراً عن سطح الأرض، ولفت انتباهه وجود سلحفاة صغيرة تسبح في البئر فسأل البيدار عنها. قال البيدار أن أخاه اصطادها في البحر عندما ذهب للصيد السمك، فأتى بها وأطلقها في البئر منذ شهرين. وهي تسلي وتنظف البئر من الطحالب. وإذا سقطت في الماء ورقة من شجرة اللوزة المظللة للبئر أكلتها السلحفاة.
عاد أحمد إلى عريش الدار غرب زريبة النخل للإفطار كالعادة مع الأهل. وجلس مع أبيه ووالدته يشرب الشاي مع الحليب وقد وضعت أمه الخبز المحلى والبلاليط في صينية الإفطار. لم يحس أحمد بالرغبة في الأكل. كان سارحاً يفكر فيما يجري في البيت المجار وهو بيتنا. ولم يكن يعلم أنني كنت مريضة ذلك اليوم. ولم تمضي ساعات حتى وصله الخبر.
كانت عرشنا الصيفية قريبة من عرش أهل أحمد، ولم يكن لنا زريبة نخل خاصة بنا مثلهم. كانت أم أحمد وأمي على علاقة جيدة، وكانت أم أحمد ترسل لنا الرطب واللوز من نخيلهم.
ذهبت أمي قبيل ظهر ذلك اليوم تزور أم أحمد لتستشيرها في أمر مرضي وتطلب منها ما توفر عندها من الأدوية. أعطتها أم أحمد هليلي وزعتر ودعتي بالشفاء. وسمع أحمد أمه تخبر والده عن مرضي فكاد يموت غماً ولكنه أخفى مشاعره عن أهله.
(6)
مضى على مرضي ثلاثة أيام ولكن أحمد أبى أن يتأخر عن مكان اللقاء. كان يذهب ويجلس في نفس المكان فيحس بألم الوحشة والفراق، فيبكي بكاء طويلاً حتى يحين موعد النوم، فيجفف دموعه ويعود إلى البيت وقلبه مفعم بالأسى والحزن. كان الحزن يعاوده في البيت، فلا يهدأ قلبه نهاراً ولا ليلاً. أصيب بالأرق الشديد، وإذا غفا هجمت عليه الأحلام المزعجة عن الموت والأموات والمقابر والأشباح. وقد أنكر عليه أهله اضطراب نومه. وقد حلم عدة مرات بأنني في سكرات الموت أو أنني ميتة، فيقوم من نومه مذعوراً يبكي، وعندما يسأله أهله عما يراه في المنام يلوذ بالصمت فلا يجيب.
احتار أهله في أمره فظن والده أن به مساً من الجن، فكان يجلس عند رأسه ساعات طويلة يتلو عليه آيات من القرآن الكريم. ويأتي أحيانا بإمام المسجد ليراه ويقرأ عليه لعله يعرف العلة وينصح بالعلاج، ولكن بدون جدوى.
وبقي على هذه الحالة أربعة أيام، فضعف جسمه ونحل ومرض مرضاً حقيقياً ولازم الفراش فلم يستطع أن يذهب إلى الوادي، فزاد ذلك في حزنه.
ذهبت أمه إلى معيريض تسأل أم محمد العجوز إن تأتي معها إلى الغب لعلاجه. قررت أم محمد لما رأته أنه لا بد من كيه، ولكن لأنه ليس طفلاً فالأفضل أن يكويه رجل.
وفي صباح اليوم التالي ذهب والد أحمد إلى بيت ضاعن في الحي الجنوبي من معيريض وأخبره بحالة أحمد. أيّد ضاعن فكرة الكي ووعد بإجرائها بعد صلاة العصر. ولكن تحسنت حالة أحمد ظهر ذلك اليوم بعد أن سمع أني قد شُفيت من المرض. أحس وكأنه معافى تماما فحاول أن ينهض من فراشه ولكنه عجز عن النهوض لضعف جسمه. فلما أتى ضاعن بعد العصر حاملاً مياسمه، وعلم بتحسن حالته نصح أبا أحمد بأن يدلك جسمه بالزيت فقط. وبقي أحمد ثلاثة أيام يُدلك فيها جسمه بالزيوت، قضاها وكأنه على نار محرقة لأن أهله أرغموه على البقاء في البيت حتى يسترد عافيته. كان في شوق إليَ وكان ينتظر ساعة اللقاء بحرارة.
(7)
وفي اليوم الرابع بعد أن تناول عشاءه أخبر أهله بأنه سيذهب لزيارة صديق، ولكنه لم يذهب لزيارة صديق بل مشى في ظلمة الليل متوجهاً شطر الوادي لينتظرني هناك، وفوجئ عند وصوله بي جالسة على الصخرة في انتظاره، فصرخ:
فاطمة ... فاطمة..
ولكني لم أجبه فقد خنق الدمع صوتي، واقترب مني ببطء واحتواني بين ذراعيه وضمني إلى صدره وأحس بدموعي الساخنة تبلل صدره، وأنا صامتة لا أبدي حراكاً، ولاذ هو بالصمت أيضا وبقينا صامتين تتردد أنفاسنا وكأنها تتناجى وتتحدث عنا بكلمات تجيش بما في صدرينا من حب بريء وشوق.
لم يطق أحمد كل ذلك الصمت فقال بصوت حزين:
- فاطمة . . فاطمة . ما ألطف هذا الاسم . . . يكفي بكاء وشقاء . . . لننس أحزاننا ونفرح باللقاء.
فأجبته بصوت خافت ملؤه الخوف:
- آه يا أحمد . . . كم كان الفراق شاقاً علي . . . إنني لا ولن أذيق طعم السعادة إلا بجوارك. إنني خائفة ... خائفة . . . يا أحمد.
- ماذا يخيفك .. يا فاطمة.. وأنا معك؟
- إني أخاف من الفراق ..ماذا سأفعل إن تكرر الفراق؟
- لا لن يتكرر إن شاء الله . . . لقد سئمت حياةً أكون فيها بعيداً عنك. قريباً وقريباً جداً سنظهر حبنا خارج هذا الوادي المظلم.
- لا أفهم ما تعني يا أحمد.
- أعني أننا سنكلل حبنا بالسعادة الدائمة .. بالحياة الزوجية معاً بلا فراق ولا خوف.
- آه . . . ما أغلى هذا الأمل يا أحمد. ليت والدي يقبلك بدون مهر وستكون السعادة مهري الحقيقي . . . ولكني أخجل وأخاف أن أصارح والدي بمثل هذا الطلب.
- لا حاجة لأن تكلمي والدك، سأخبر والدي وأعترف له بحبنا، ووالدي رجل عاقل لن يقف في طريق سعادتي لأني ولده الوحيد. وآخر الصيف حالما نتحول من النخل إلى البلد سآتي أنا مع والدي إلى بيتكم فنخطبك. سنوافق على كل شرط يطلبه أبوك. . . . ثم سيضمنا معاً عش الزوجية السعيد. وتوقف أحمد عن الكلام عندما رآني سارحة ومحملقة أنظر إلى النجوم في ذهول، فناداني قائلا ً:
- يا حبيبتي وأعز مخلوق في حياتي بماذا تفكرين الآن؟
فأجبته بعد أن أيقظني من حلمي الجميل:
- آه . . . نعم . . . . إنني أتخيل نفسي أجلس بجوارك وأنت زوجي وفي حضني طفلة أداعبها. ولكن تقدم بنا الليل، وقد يعود والدي الآن فلا يجدني في البيت، وقد قلت لأمي إني ذاهبة لزيارة صديقتي عائشة، فدعنا نذهب.
(8)
وبعد أن انتهي فصل الصيف الحار ترك الناس النخيل ومياهها العذبة وعادوا إلى مدنهم وقراهم الساحلية كما هي عادة أهالي رأس الخيمة. فهم يتركون بيوتهم وقراهم صيفاً هرباً من الحر الشديد ويلجؤون إلى النخيل حيث الخضرة النضرة والمياه العذبة، بعيداً عن ساحل البحر ورطوبته. ثم يعودون إلى بيوتهم الشتوية بعد انقضاء الصيف. وهكذا عادت فاطمة وأهلها إلى بيتهم في معيريض كما عاد أحمد وأهل
قالت فاطمة لضرتها سعيدة: كان بيتنا صغيراً ولا أظنك تذكرينه، كان يحتوي على غرفة واحدة من الحجر الجص وخيمة من السعف، كما يحتوي على عشتين أو كوخين صغيرين خصص أحدهما للطبخ والآخر للغنم. أما البقرة فكان لها ظل من سعف النخل بجوار جدار الغرفة وتحته دعن لصد الريح. وكان الدجاج يرك بجوار الدعن وتحت السجم. وكان بئرنا في زاوية قرب الحوش جنوباً. ولا يصلح ماؤه للشرب ولكن للحيوانات والغسل وأحياناً للطبخ. وكانا نشتري صفيحتين بثمان بيزات من الماء العذب المجلوب من الحديبة على الحمار يومياً للشرب.
فقاطعت سعيدة ضرتها قائلة: بيتكم قرب البحر أما بيتنا ففي الداخل بعيداً عن البحر. وكل ما في بيتنا خيمتين من سعف النخل وعشة للطبخ وسجم للنوم. ومع أنه لم تكن عندنا بقرة إلا أن الظمي القارص كان يأتي بيتنا من الجيران لأن عندهم بقرة. ولم أكن أستطيع أن أجلس وألعب على الرمل داخل البيت ربع ساعة بدون أن تحمر رجلي من قرص الضمي الذي كنت أكرهه. كانت الحشرة تشرب الدم من جلدي فتنتفخ مثل التفاخة (البالون). ولم أشعر بالألم إلا بعد أن امتلأت بالدم. ولذلك كان السجم رحمة لنا.
فاطمة: وكنت كذلك أكره الظمي المنتشر في حوش بيتنا، وسمعت أنه نوعان، نوع يأتي مع البقر والآخر يأتي مع الغنم. ولكن أحسن ما في بيتنا هو قربه من البحر. كان يعجبني أن أفتح شباك الغرفة المطل على البحر وأجلس أنظر إلى الأمواج الصغيرة وهي تتكسر على الشاطئ، وأرى القوارب الشراعية الصغيرة وهي تمر. وكان يلفت نظري الحركة الدائمة حول بوم جارنا الغني الحاج محمد جاسم.
في بعض الناس طبيعة غريبة يا عزيزتي، إذ قد يشعر الإنسان بميل لإنسان يراه صدفة كما قد ينفر أو يكره إنساناً لم يؤذه قط. وهكذا أنا فقد كنت أشعر بالكراهية للحاج محمد جاسم ولم أكن أعرف سبب هذه الكراهية، وكأن نفسي قد تنبأت بالمستقبل وما سيحدث لي.
عاشة: كفاك الله الشر والمكروه.
فاطمة: الذي ألله مقدره ما نقدر نهرب منه. على أي حال بقِيت أنتظر خطبة أحمد يوماً بعد يوم. وانقضى شهر ولم يأت أحمد وأبوه للخطبة فانتابني القلق والوسواس، فأنا لا أستطيع أن أعرف من أبي شيئاً من ذلك، وكنت أخافه كثيراً كما يخافه الأهل كلهم، وليست عندي وسيلة لرؤية أحمد بعد أن كبرنا إلا من بعيد في معيريض.
ودخل عليَّ أبي يوماً مسروراً على غير عادته يبتسم ويضحك من قلبه، ثم خرج ونادى أمي ورجع. أحسست بأنه يريد أن يقول شيئاً مهماً وقد يكون خطبة الحبيب أحمد. أخفيت سروري ولكن لم أستطع أن أخفي اضطرابي فصرت أعبث في شعري لا شعورياً، منتظرة البشرى التي سيزفها آنذاك والدي.
وأخيراً تكلم والدي فقال:
لقد كبرت الآن يا فاطمة . . . ويجب أن نزوجك على سنة الله ورسوله. وسكت ليسمع جوابي وكنت أحاول أن لا أظهر سعادتي أمامه، مع أني كدت أقفز وكاد قلبي يطير فرحاً، وقلت في نفسي سأحدث أحمد فيما بعد عن هذه الساعة الحرجة. أردت أن أقول نعم موافقة، لكني خجلت وعقد الحياء لساني فلم أجب.. وخفضت رأسي صامتة.
وتابع والدي كلامه قائلاً :
- حسناً .. السكوت من الرضا. ثم وجه حديثه إلى أمي قائلاً:
- لقد خطبت ابنتك يا مريم.
فقالت أمي:
- إن هذا يسعدني كثيراً ولو أن خروجها من البيت وفراقها صعب علي.
ثم التفت إلي وقال باسماً:
- أتعلمين يا فاطمة أنك محظوظة لأنك مخطوبة لابن أغنى رجل في معيريض، وستحسدك البنات...
لم أدعه يكمل فقد طار صوابي وصرخت وكأن أفعى قد لدغتني:
- من هو؟
- إنه جاسم بن الحاج محمد
ونزل الخبر علي كالصاعقة وكاد يغمى علي من هوله. وقد استغرب والدي أنه لم تبد علي آثار السعادة والفرح، بل لاحظ تغير لوني وارتعاش أطرافي وكأنني أصبت ببرد مفاجئ، ثم صرخت بشدة:
- لا لن أتزوجه . . . إني لا أحبه .. دعوني لا أريد زوجاً.
وهنا اشتط والدي غضباً فاحمرت عيناه وصاح في قائلاً:
- لا تحبينه! .. ومتى صارت البنت تحب قبل الزواج؟ ستتزوجينه غصباً عنك. كنت أعتقد أنك كبرت، ولكنك وللأسف ما زلت طفلة لا تعرفين مصلحتك. هذا الزوج الذي سيريحك ويريحنا. أتعلمين لو أنه خطب فتاة أخرى لقبلت نعاله؟ ولكنك جاهلة.
- لا يا أبي . . أرجوك ... حرام عليك تجبرني. . . إني أكرهه . . .لا تعذبني.
ولم يتحمل أبي كلامي فصرخ وهو يصفعني على وجهي بشدة بينما أمي ترمي نفسها نحوي لتمنعه من ضربي:
- اخرسي . . . إن عدتِ إلى هذا القول فإني سأقتلك. أنا أعذبك يا مجنونة لأني اخترت لك رجلاً غنياً ليسعدك. ثم خرج ووجهه محمر يقطر عرقاً من شدة الغضب.
ارتميت على صدر أمي أبكي فاحتضنتني بتأثر وقد غلبها حنان الأمومة فبكت لبكائي وبقينا متشابكتين وكنت أئن قائلة:
- لا أريده .. لا أريده .. سأموت.
ثم بحت لأمي بسري وحبي العفيف لأحمد منذ الطفولة.
وغالبت أمي دموعها وقالت:
- إن أباك ظالم وطماع ومن المستحيل أن يتراجع، ولا حل لك إلا طاعته والإذعان لمشيئته ولو كلمته في أمرك لضربني أو طلقني.
ثم خيم الصمت علي وعلى أمي بينما الدموع تنساب بغزارة...
(9)
جلس أحمد ينتظر عودة أبيه وهو لا يعلم ما يخفي له القدر. لقد فاتح أباه بالموضوع واستطاع أن يقنعه بضرورة زواجه مني، فجاء أبوه مع بعض أصدقائه لخطبتي. وقد رفض أن يصطحب أحمد معهم لأنه لم يكن واثقاً من قبول والدي، المعروف لديهم بالطمع. فتركه جالساً ينتظر وأحس المسكين كأنه انتظر دهراً مع أنه لم يمض على ذهابهم ساعة واحدة. وأخيراً عاد والده حزيناً ليعزيه بدلاً من أن يزف إليه البشرى. وأخرس النبأ أحمد فلم ينطق بحرف، ولم يعد يفقه كلام أهله. وكان صوت والده يتردد في أذنه عندما قال له: (قال لي أبوها بفخر أن ابنته مخطوبة لابن أغنى رجل في معيريض). وحاول والده أن يقنعه بأن يتزوج من فتاة أخرى فرفض.
وبعد أيام افتقده أهله وبحثوا عنه فلم يعثروا له على أثر. ثم عثر والده على ورقتين تحت فراشه ففتح إحداهما فإذا هي رسالة من أحمد:
والدي العزيز ووالدتي العزيزة،
لا تحزنا على فراقي فأنا بخير وذاهب إلى الكويت لأنني لا أستطيع البقاء في معيريض. سأكمل تعليمي هناك. لقد حصلت على مساعدة سمو الشيخ صقر فجزاه الله خيراً. طلبي الوحيد أن ترسل أمي الرسالة المرفقة لفاطمة. ابنكم أحمد.
ولما فتح أبوه الورقة الموجهة إلي وجد فيها مكتوباً:
"وداعاً إلى الأبد" ■
--
كتبت القصة في مستشفى الثانوية بالشويخ - الكويت 21-23 أبريل 1961م.
تعقيب:
لقد كتبت هذه القصة الخيالية القصيرة سنة1961 بينما كنت طالباً في الكويت، في الصف الأول الثانوي (يعادل الثالث الإعدادي في قطر). وقد كتبتها في مستشفى الشويخ الخاض بالمدرسة، حيث كنت مريضا بالتهاب الغدة النكفية (Mumps). وقد أدخلت مستشفى الثانوية وعزلت غصباً عني لمدة أسبوعين، مع أني لم أكن أشعر بألم أو حمى ولكن أخبرني طبيب المدرسة آنذاك أن إجراءات منظمة الصحة العالمية، تحتم عزل الأطفال المصابين بذلك المرض لمدة أسبوعين، لمنع انتشار العدوى.
حجر